دراسات
ندوة في لندن تناقش:
آراء برلمانية بريطانية من الضفة الغربية
تاريخ النشر : الثلاثاء ٣١ يوليو ٢٠١٢
يكاد يكون هناك اتفاق عام على أن وضع القضية الفلسطينية قد وصل إلى مرحلة من التجاهل والتهميش غير مسبوقة، فعلى المستوى السياسي أصبحت عملية التسوية السياسية مجمدة؛ بسبب الموقف المتعنت للحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة "بنيامين نتنياهو" وسلبية الرعاة الدوليين في مواجهتها إلى جانب ضعف القيادة الفلسطينية نفسها وفشلها في إدارة عملية التسوية منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام ,.1993 أما على المستوى الإنساني، فإن الشعب الفلسطيني يعاني الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل في حقه بداية من هدم منازله ومصادرة أراضيه لبناء المستوطنات عليها مرورا بسياسات الاعتقال والاغتيالات، وانتهاء بالحصار والاعتداءات المتكررة.. وجميعها انتهاكات لا تجد اهتماما من المجتمع الدولي.
ذلك التجاهل الذي يكاد يكون متعمدا للشأن الفلسطيني من المجتمع الدولي وقواه الكبرى بكل ما يعنيه ويحمله من إجحاف وظلم بيّن بحق شعب دفع ثمنا غاليا من أرضه ودماء أبنائه على جريمة لم يرتكبها بحق اليهود رغم أن بعض هذه القوى الكبرى كبريطانيا تحديدا ومعها أمريكا مسئولان عما يعانيه، فإنه لا يمكن إعفاء الجانب العربي من مسؤوليته بسبب سلبيته وضعفه وعدم جديته في الدفاع عن القضية الفلسطينية التي يفترض أنها قضية العرب الأساسية.
ومع ذلك، فإنه رغم غياب الاهتمام العربي والغربي الرسمي بالشأن الفلسطيني، فإن الأمر على المستوى الشعبي وعلى مستوى المجتمع المدني قد يبدو مختلفا؛ حيث يظهر الاهتمام بالقضية الفلسطينية كقضية سياسية وإنسانية تستحق الدعم والمساندة.
ذلك الاهتمام في واقع الأمر يظهر بوضوح في النموذج الذي يمثله مجلس تعزيز التفاهم العربي - البريطاني ومقره لندن وتم تأسيسه في منتصف السبعينيات برعاية المرحوم "محمود رياض" الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية وبحضور وزير خارجية بريطانيا آنذاك "ديفيد أوين"، ذلك المجلس الذي يعمل كمنظمة عربية بريطانية تمارس الضغط في قضايا رئيسية مثل حقوق الإنسان والسياسة والتواصل مع النواب والصحفيين البريطانيين، ويقوم بدور في إسماع المطالب الشعبية في جميع أنحاء العالم العربي داخل بريطانيا، علاوة على دوره الأهم في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، الذي يمثل حجر الزاوية في عمله؛ حيث يوفر صوتا بديلا لا غنى عنه في مواجهة اللوبي المؤيد لإسرائيل في المملكة المتحدة.
ولأن دور مجلس تعزيز التفاهم العربي - البريطاني الأساسي هو الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، لذا كان من أنشطته الرئيسية في هذا المجال قيام وفود برلمانية بريطانية تحت إشرافه بزيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة لإثارة قضايا مهمة مثل: المستعمرات والقدس والمعتقلين الفلسطينيين.
وللدلالة على اهتمام المجلس فإن عدد البرلمانيين البريطانيين الذين زاروا الأراضي الفلسطينية المحتلة وصل في عام 2011 إلى 19 برلمانيّا.. ومؤخرا وتحديدا في يونيه 2012 قام ثلاثة برلمانيين بزيارة الضفة الغربية ضمن وفد المجلس وهم "جون دينهام" (عضو البرلمان عن حزب العمال ووزير الداخلية في الحكومة العمالية الأخيرة) و"أيان لوكاس" (عضو البرلمان عن حزب العمال والمسئول عن الشرق الأوسط في حكومة الظل الحالية) والكولونيل "بوب ستيوارت" (عضو البرلمان عن حزب المحافظين والقائد السابق لقوات الأمم المتحدة في البوسنة 1992-1993).
تلك الزيارة التي استغرقت خمسة أيام ربما لم تكن كافية لأن يروا على الطبيعة ويسمعوا من الشهود ما يجري في الأراضي المحتلة من ممارسات وانتهاكات كتوسيع المستعمرات، والتهجير بالقوة، واحتجاز الأطفال في السجون العسكرية.
ولقد حرص البرلمانيون الثلاثة بعد عودتهم إلى لندن على نقل انطباعاتهم عما رأوه وسمعوه إلى المعنيين والمهتمين من الخبراء والأكاديميين والصحفيين، وذلك من خلال الندوة التي استضافها مجلس تعزيز التفاهم العربي -البريطاني في 4/7/2012 تحت عنوان "آراء برلمانية من الضفة الغربية" تحت قبة البرلمان البريطاني بحضور عدد كبير من الدبلوماسيين والإعلاميين والأكاديميين والباحثين المهتمين بالشأن الفلسطيني والعمل الإنساني.
والملاحظة الرئيسية في تلك الندوة هي أنها شهدت اتفاقا في الآراء والانطباعات بين البرلمانيين الثلاثة كما أن هذه الآراء والانطباعات كانت محلا لتعليقات مختلفة من جانب الحضور.. ويمكن حصر جوانب الاتفاق بين البرلمانيين الثلاثة فيما يخص مشاهداتهم داخل الأراضي المحتلة في النقاط التالية:
أولا: الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون الذين يعيشون في الأراضي المحتلة؛ حيث ألقوا الضوء على مستوى القلق الفلسطيني المرتفع حيال معدل التوسع في بناء المستعمرات الإسرائيلية، وحجم الدمار الذي يتسبب فيه المستوطنون، ومعاملة الأطفال الفلسطينيين بطريقة قاسية وغير إنسانية من جانب قوات الاحتلال تحت مظلة القانون العسكري الإسرائيلي.
ثانيا: الاستخدام اللغوي، فقد سُئل "بوب ستيوارت" على وجه التحديد من قبل بعض الحضور عن السبب وراء تردده بعض الشيء في استخدام لفظ "التمييز العنصري" عندما وصف الوضع الذي يعيش فيه الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي في ظل مجموعتين مختلفتين من القوانين.. أجاب بأن هناك حاجة إلى تجنب استخدام الألفاظ المثيرة عاطفيّا التي قد تضيف المزيد من العقبات وتؤدي إلى تأجيج المشاعر، وهو ما أيده فيه البرلمانيان الآخران؛ حيث أكدا أن الألفاظ العاطفية يمكنها تعقيد الأمور بشكل أكبر، بالنظر إلى ردود الفعل المعادية التي حتما ستثيرها مثل هذه الألفاظ من جانب الحكومة الإسرائيلية.
ثالثا: التواؤم مع الاحتلال؛ حيث تحدث كل من "جون دينهام" و"أيان لوكاس" عن شعورهما بوجود ميل إلى التواؤم أو التطبيعَ(itazilamron( بحسب تعبيرهما لدى هؤلاء الذين يعيشون في ظل الاحتلال؛ فعلى سبيل المثال قارن "دينهام" بين الانطباع الذي أخذه لدى الزيارة التي قام بها للأراضي المحتلة في عام 2004 والشعور الذي تولد لديه في هذه الزيارة الأخيرة، مشيرا إلى أن الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية أصبحوا معتادي طبيعة الحياة اليومية في ظل الاحتلال.
رابعا: استحالة حل الدولتين، ففي كل أحاديث البرلمانيين البريطانيين الثلاثة تم تخصيص بعض الوقت لمناقشة الوضع الخاص بحل الدولتين.. وبشكل عام، كان هناك إجماع على أنه طالما أن الثقة غائبة وكلا من الطرفين متمسك بموقفه، فستظل المفاوضات متوقفة وستصبح القدرة على حل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي من خلال إقامة دولتين متجاورتين أمرا مستحيلا من الناحية العملية.
وحين فُتح الباب للمناقشة بدا واضحا اهتمام بعض الحضور بالتعليق وتوجيه الانتقادات الوثيقة الصلة بالموضوع، ولاسيما فيما يخص موقف بريطانيا من القضية الفلسطينية ومن ممارسة الضغوط على إسرائيل؛ فعلى سبيل المثال اتهم أحد الحاضرين البرلمانيين البريطانيين بازدواجية المعايير عندما يتعلق الأمر بتأييد حقوق الفلسطينيين، وطلب تفسيرا للسبب وراء تبدل مواقف الأحزاب البريطانية وهي خارج السلطة عن مواقفها وهي في السلطة؛ إذ إنه بمجرد وصول أي حزب سياسي بريطاني إلى السلطة، فإنه يخبو فجأة تأييده للقضية الفلسطينية.
ومن النقاط الأخرى التي أثارها الحاضرون فيما يتعلق بزيادة الضغوط على إسرائيل.. مسألة تشكيل قوة "دولية" تكون مهمتها مراقبة الأحداث على الأرض، ومسألة مقاطعة المنتجات الواردة من الأراضي المحتلة.
من جانبه، أشار "بوب ستيوارت" إلى أن تأسيس قوة دولية لصنع وحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة هي أسهل في الطرح عنها في التنفيذ، مشيرا إلى العقبات التي تواجه عملية الوصول إلى إجماع داخل مجلس الأمن حول هذه المسألة في ظل رفض إسرائيل المتوقع (وبالتبعية رفض الولايات المتحدة) وبالتالي فإنه طرح بلا فائدة عملية ومن المستحيل تنفيذه.
وتساءل "ستيوارت" أيضا: لماذا يقع العبء كله دائما على الغرب، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا؟ وبالتالي طالب الزعماء العرب بمساعدة الفلسطينيين بشكل أكبر.
من جهته أوضح "ايان لوكاس" التحركات التي تقوم بها الحكومة البريطانية الحاليةـ وهي تحركات غير مسبوقة ـ للنظر في الوضع القانوني للسلع القادمة من الأراضي المحتلة، بمعنى الضمانات القانونية لبيع السلع الواردة من هناك.. وأشار أيضا إلى أنه بالنظر إلى أهمية العلاقات التجارية بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي، فإنه ينبغي أن يبحث الاتحاد الأوروبي وبريطانيا إدارة علاقاتهما التجارية مع إسرائيل وفقا لحالة عملية السلام في الشرق الأوسط.
ورغم الردود السابقة بدا العديد من الحاضرين غير مقتنعين بتوجه المتحدثين الثلاثة إزاء ممارسة الضغوط على إسرائيل؛ حيث كان هناك رأي مضاد يقول إن المملكة المتحدة لابد أن تكون أكثر جرأة في موقفها وتوجهاتها تجاه إسرائيل؛ إذ يجب أن تشجب إسرائيل على معاملتها غير الإنسانية وانتهاكاتها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.. وبالتالي لم يكن الجميع مقتنعا بالحاجة إلى صياغة الألفاظ بشكل حذر (خوفا من غضب إسرائيل)، ويرون أن مثل هذا الموقف المرتعش يحد كثيرا من إمكانية إحداث تغيير في التوجهات الإسرائيلية.
وكم كان لافتا أن يربط أحد الحضور بين إسرائيل وجنوب افريقيا؛ حيث ذكر أن الأدلة تشير إلى أن الوضع في الأراضي المحتلة أسوأ مما كان عليه في ظل سياسة التمييز العنصري في جنوب افريقيا، وعلى ذلك فإنه بالنظر إلى خطورة الوضع الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلة واستمرار غياب الثقة والمرونة في المواقف بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وبالتالي توقف المفاوضات وضعف فرص حل الدولتين، فإنه لابد أن تكون بريطانيا على استعداد لممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل.
بعد الاستعراض السابق لما جاء في الندوة من عرض لانطباعات النواب البريطانيين عند زيارتهم للضفة الغربية وبعد تثمين موقفهم الإيجابي من القضية الفلسطينية إلا أن هناك عدة ملاحظات يجب الإشارة إليها:
الأولى: ما أشار إليه النواب من أنه يجب تجنب الألفاظ المثيرة للعواطف عند الحديث عن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهنا يمكن القول إن النواب البريطانيين قد خانتهم الشجاعة حين تخوفوا من وصف ما يجري في الضفة الغربية من عنصرية، وهو نوع من النفاق غير المقبول.
الثانية: الحديث عن ميل الفلسطينيين إلى التطبيع مع الاحتلال، يوحي بأن الفلسطينيين استسلموا للاحتلال وأصبحوا أكثر تقبلا وتعايشا معه، في حين أنهم مجبرون على التعامل معه بحكم سيطرته على الأراضي الفلسطينية المحتلة بالقوة القاهرة، وذلك لتسيير شؤون حياتهم اليومية، فهم في جميع الأحوال يرفضون الاحتلال ويتوقون إلى الدولة المستقلة مهما وفر لهم الاحتلال من رفاهية ورغد العيش.
الثالثة: تساؤل "ستيوارت": لماذا يقع العبء كله على بريطانيا والولايات المتحدة؟ وهو تساؤل في غير محله؛ فكل من بريطانيا والولايات المتحدة تحديدا مسئولة مسؤولية مباشرة عن مأساة الشعب الفلسطيني، فبريطانيا هي التي جاءت باليهود إلى فلسطين "بوعد بلفور المشئوم" ووضعت اللبنة الأولى لقيام دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين، وبالتالي هي المسئولة عن كل الجرائم التي ارتكبت بحق هذا الشعب وعليها تصحيح خطئها بالاعتذار ودفع تعويضات له لما لحق به.. أما الولايات المتحدة فهي التي قدمت الدعمين السياسي والعسكري للدولة العبرية وتكفلت بإجهاض الكثير من القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، بل التي تدين إسرائيل على ممارساتها وانتهاكاتها بحق الفلسطينيين، وبالتالي فالدولتان مسئولتان بصورة مباشرة عن وضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني.
الرابعة: الحديث عن تراجع تأييد الأحزاب البريطانية للقضية الفلسطينية يكشف ما تتسم به مواقف وسياسة الأحزاب البريطانية من نفاق ونفعية، فالحزب حين يكون خارج السلطة يظهر مواقف تبدو إيجابية تجاه القضية الفلسطينية ربما أملا في كسب أصوات العرب والمسلمين في بريطانيا (ويصل عددهم إلى مليوني نسمة) في حين تتبدل المواقف حين يصل الحزب إلى السلطة فتصبح سياسته أكثر تملقا لإسرائيل وأكثر مراعاة للوبي اليهودي في بريطانيا.