مقالات
الإنسان الفارّ
تاريخ النشر : الخميس ٢ أغسطس ٢٠١٢
الإنسان محاصر في جسده، ومحاصر في عمره، ومحاصر بحسناته أو سيئاته، وهو بعد ذلك محاصر في قبره، وفي برزخه، ويوم القيامة محاصر بعمله، فإما إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وإما إلى جهنم يصلاها سعيرا، فأين المفر؟
تحدثت سورة القيامة عن أحوال الانسان في ذلك اليوم العظيم، وما يشعر حين يرى ما وعده ربه وما توعده به حق اليقين، بعد أن علم اليقين، وعين اليقين، تقول بعض آيات السورة: "فإذا برق البصر. وخسف القمر. وجمع الشمس والقمر. يقول الانسان يومئذ أين المفر. كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر. ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" (القيامة/ 7ـ 13).
مشهد عظيم، واحداث جليلة يراها الانسان في ذلك، فيدرك حق اليقين الانسان الطائع المؤمن الذي كان شعاره في الدنيا الذي لا يفتر عنه "سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير".
كان هذا نشيده في الصباح، ونشيده في المساء، وحين يتقلب في فراشه.
هذا الانسان المؤمن يفرح لأن زمن العناء، وزمن الشقاء، وزمن العمل، قد ولى، والآن زمن العطاء، زمن الجزاء، ولقد جاءته البشائر وهو في قبره حين وسع عليه مولاه عز وجل، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وفتح له نافذة ليرى مقعده في الجنة، فيحمد مولاه، ويرتل آيات الشكر والثناء على ما تفضل عليه سبحانه من عطاء.
وأما الجاحد لأنعم الله، الكافر به سبحانه، المولي وجهه شطر المشرق والمغرب، الذي اعرض عن هدايات الحق، ولم يتخذ سبيل المؤمنين سبيلا له، هذا الانسان يصرخ ويقول: أين المفر؟
ولو فر في الدنيا إلى الله، ولجأ إلى حماه، واعرض عمن سواه، لأدركته رحمة الله، ولوجد من يمد يده له بالعطاء.
نعم، جاء النداء العاجل في الدنيا أن فروا إلى الله.. إلى توحيده، فلا تعبدوا غيره، ولا تسمعوا ولا تطيعوا لأحد سواه، وقولوا في صوت متبتل طائع: سمعنا واطعنا.
وكونوا فيما بينكم اخوانا متحابين، ولا تأخذوا من الدنيا فوق ما تحتاجون، فهي مطيتكم للآخرة، وإياكم ان تكونوا مطية لها.
والانسان حتى يكون محسنا كامل الإحسان أو قريبا من الكمال فيه هو الذي لا يكتفي بالإحسان إلى والديه وأقربائه، بل يتجاوزهم إلى غيرهم، وأن يحسن كما يحسن الناس إليه، بل يتفضل على حتى الذي يسيء إليه، فيبادر بالإحسان إليه ليستل الحقد والكراهية من قلبه ويكون من الذين قال الله تعالى فيهم: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (فصلت/ 34).
ولن يتحقق هذا إلا إذا قابل الانسان السيئة بالحسنة ويواصل في ذلك حتى يتحول العدو إلى ولي حميم، فإذا لم يتحقق ذلك فليعلم المحسن أنه لم يخلص في إحسانه، ولم يبلغ الغاية منه.
إن الفرار إلى الله تعالى في الدنيا منجاة للفارّ يوم القيامة، ومن أعرض عن مولاه سبحانه في الدنيا، فسوف يعرض عنه عز وجل في الآخرة يوم لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا منجاة من عذابه إلا برحمته التي تتجلى في شفاعة نبيه ومصطفاه (صلى الله عليه وسلم).
أيها الانسان، احسن الفرار في الدنيا، لتنجو في الآخرة.