الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٣٦ - الأحد ١ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٧ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


ملكة سبأ.. ملكة ديمقراطية





العجيب في بعض الحكام انهم يحرصون على استنساخ التجارب السيئة من التاريخ! فبدل أن يقتدوا في مناهج حكمهم بذي القرنين الذي جاء ذكره في سورة (الكهف) وهو ملك صالح، ويقتدوا بملكة سبأ التي كانت في سلوكها مع شعبها تطبق ما نسميه اليوم الديمقراطية، فهي رغم انها ملكة وفي يدها جميع السلطات، فإنها لم تستبد ولم تصادر حق شعبها وأهل المشورة في الرجوع اليهم وأخذ المشورة منهم، وها هو كتاب الله الخالد القرآن الكريم يسجل هذا الموقف لهذه الملكة التي خلد القرآن ذكرها في وحي يتلى الى يوم القيامة.

عندما علم نبي الله سليمان عليه السلام من الهدهد نبأ هذه الملكة وما كانت تعبد هي وقومها صار لزاما عليه أن يدعوها الى الاسلام وأن يستنقذها من الكفر وعبادة الشمس، ولنبدأ بالتقرير الذي رفعه الهدهد الى مليكه ونبيه سليمان عليه السلام ثم نتتبع الاجراءات التي اتخذها نبي الله سليمان عليه السلام وردود افعال ملكة سبأ على تلك الاجراءات.

في استعراضه لشعبه (العجيب) تفقد الطير فلم يجد الهدهد بينهم فسأل عنه قال تعالى: «وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين(٢٠) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين(٢١) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين(٢٢) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم(٢٣) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون(٢٤) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون(٢٥) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم(٢٦) (النمل).

هذا هو التقرير الوافي الذي قدمه الهدهد الى مليكه سليمان عليه السلام ويتضمن عذره المقبول عن تغيبه من دون إذن مولاه ومليكه، هذا ان صدق التقرير ولابد من التأكد مما نقله الهدهد الى نبي الله سليمان عليه السلام.

«قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين(٢٧) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون(٢٨)» (النمل).

أوصل الهدهد الكتاب الى ملكة سبأ ثم انتظر الجواب.

الملكة في اجتماع عاجل مع أركان دولتها تعرض عليهم كتاب نبي الله سليمان لتستشيرهم في الخطوة التي عليها أن تخطوها للتعامل مع هذه الازمة الطارئة «قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم (٢٩) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم(٣٠) ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين(٣١)» (النمل).

كتاب شديد الايجاز، شديد البلاغة، وكان من الممكن ان تنفرد باتخاذ القرار حيث كانت تتمتع بصلاحيات مطلقة، ولكنها في نضج سياسي لا يتمتع به كثير من الحكام والزعماء والقادة في عصرنا هذا: «قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (٣٢)» (النمل).

نلاحظ شدة تمسكها بالنهج الديمقراطي في حكمها وانها لم تستبد برأيها، ولم تمارس الصلاحيات الممنوحة لها، بل أصرت على مشاركة شعبها وأولي المشورة من أهل الفكر والسياسة، لأنها تريدهم أن يتحملوا معها مسئولية هذا القرار الذي ربما تترتب عليه مواجهة عسكرية تسفك فيها الدماء، وييتم فيها الأبناء، وترمل فيها النساء، ويهلك فيها الحرث والنسل.

فما كان جوابهم عنها: «قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» (النمل/٣٣).

إذاً، فهي في هذه الظروف غير العادية أخذت صلاحيات استثنائية، أو ما نسميه في العصر الحديث حالة طوارئ حيث يعطى الحاكم صلاحيات غير عادية ولا يرجع فيها الى البرلمان من اجل السرعة في اتخاذ القرار، ثم بعد ذلك تعرض هذه القرارات الاستثنائية على البرلمان في اول انعقاد له.

لم تعلن ملكة سبأ الحرب مباشرة، بل ارادت ان تتأكد من حقيقة نبي الله سليمان عليه السلام هل هو حاكم مستبد، يطمح إلى الغزو والاستعلاء، أم هو ملك عادل يريد الخير لها ولشعبها؟ قالت «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون» (النمل/٣٤).

ملكة سبأ تتحدث عن مطلق ملك وأن الغالبية منهم ينطبق عليهم هذا الوصف، ولكن هل نبي الله سليمان واحد منهم؟

لا تستطيع ان تجزم بذلك حتى تختبره، فقالت: «وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون» (النمل/٣٥).

وهذا تصرف غاية في الدهاء والحنكة السياسية من خلاله سوف تعرف حقيقة هذا الملك الذي أرسل يهدد ويتوعد، وفي ضوء رد فعله سوف يكون تصرفها أو الموقف الذي سوف تأخذه تجاه ما تواجهه من محنة «فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون(٣٦) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون(٣٧)» (النمل).

وبعد أن تأكد لملكة سبأ حقيقة نبي الله سليمان أسلمت معه لرب العالمين، وكان ذلك خيرا عليها وعلى شعبها.

هذه ملكة في الزمن القديم تضرب المثل على حرصها الشديد على اشراك شعبها في كل ما تأخذه من قرارات سوف يعود على شعبها إما بالخير وإما من دون ذلك.

وهذا مثال على الالتزام السياسي تجاه شعبها وتجاه مصيره الذي وضعه في يدها وأوكل اليها مهمة ادارة شئونه، وتحقيق المنافع له، والا تعرضه للمخاطر، ولا تستخف بأهل الرأي والمشورة فيه، ولا أدري لماذا يصر بعض الحكام على التعلل بالنماذج السيئة السمعة من ملوك وحكام الزمان، ولم يطرح أحد السؤال الآتي: لماذا النماذج السيئة من الحكام تكون لها الأولوية، ويتعلل بها الطغاة من الملوك والحكام؟ ولماذا لا تكون النماذج الطيبة السمعة هي الميزان الذي يزن به هذا الحاكم أو ذاك قربه من الصلاح والاصلاح أو بعده عنهما؟

سؤال كان ينبغي ان يطرحه هؤلاء الحكام على أنفسهم ويجيبوا عنه بمنتهى الصراحة والموضوعية، ولا يتهربوا من المواجهة، لأن هذه المواجهة سوف تتم ان عاجلا أم آجلا، ولن يكون هناك مفر من ذلك.

ومملكة سبأ رغم انها كانت وقومها يسجدون للشمس ولا يسجدون لله الذي يخرج الخبء فانها كانت تقدر شعبها وتحفظ له حقوقه في المشاركة في شئون الحكم، ولا تقطع أمرا من دون مشورته والرجوع الى رأيه، فلما فوضها في التصرف تبين انها كانت أهلا للتصرف فضلا عن انها وقبل ذلك كانت اهلا لأن تلي أمورهم، وتكون ملكة عليهم.

فقد كانت لديها رجاحة عقل، وبُعد نظر، ونضج سياسي قد لا يتمتع به كثير من الحكام الذين جاءوا الى مقاعد السلطة إما غصبا وإما وراثة من دون أن يكونوا مؤهلين لذلك.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة