عبدالرحمن الكواكبي في «الربيع العربي»
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٣ يناير ٢٠١٢
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
اشتعلت الثورات في العالم العربي ضد ثلاثة امور هي الاستبداد والفساد وتدني الاداء الاقتصادي. نتيجة هذه الآفات الثلاث تخلف العالم العربي اقتصاديا وعلميا واجتماعيا وحقوقيا وساءت احوال المواطن وتوترت العلاقة بين السلطات وبين الشعوب. انفجرت الاوضاع في بداية ٢٠١١ ونحن في بداية عام جديد مازالت حالات التوتر قائمة في عدد من الدول وهناك درجة كبيرة من الغليان في دول اخرى.
الفساد لا يقتصر على الدول العربية وتعانيه الكثير من دول العالم بدرجات متفاوتة ولكنه وبناء على تقارير منظمات الشفافية وتقرير الفساد العالمي فان الدول الديمقراطية اقل فسادا بسبب النظام الديمقراطي الذي يستند إلى منظومة من التشريعات والقوانين والاجراءات والمؤسسات الرقابية اوجدت مناخا على قدر كبير من الشفافية والمساءلة والمحاسبة الجماهيرية والاعلامية والقضائية قادرة على محاسبة كل متخذ قرار ليس فقط على ما يرتكبه النظام السياسي من تجاوزات ولكن يحاسب على نتائج سياساته وممارساته حتى تصرفاته الشخصية. نذكر مثلا ان الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلينتون تعرض لانتقاد شديد في الاعلام كونه دفع ٢٠٠ دولار لحلاقة شعر رأسه. اعتبر المجتمع الامريكي ان مثل هذا السلوك من القيادات يؤثر سلبا في قيم المجتمع ويُعلم التبذير والاسراف فيرفضها المجتمع الحر من قياداته السياسية في حين ان بعض قياداتنا العربية تجلب الاكل من فرنسا في طائرة خاصة لحفل زواج او عيد ميلاد. افسدت مثل هذه الممارسات القيم الاخلاقية في المجتمعات واصبح الاسراف امرا يتباهى به الناس حتى المعسرون منهم. ان قيم الفساد والاستبداد تنتشر من رأس الهرم فيعم المجتمع الظلم والتعدي على الحقوق. نتيجة لذلك فقدت دول عربية الامن والاستقرار هما اللذين عماد التنمية، وجسد ذلك القرآن الكريم بقوله «الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم ملاهْتَدُونَ» (الانعام ٨٢)، وربط القرآن الكريم الامن والهداية بنبذ الظلم بأنواعه ومحاربة الفساد واقامة العدل.
كتب مفكرنا الكبير عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» عن العلاقات بين الاستبداد وما ينتج عنه من آفات مجتمعية بدأها بالاستبداد والفساد - وتحدثنا عنه في مقال سابق «أخبار الخليج ٢١ ديسمبر ٢٠١١)- ومن ثم الاستبداد والمجد، والاستبداد والدين، والاستبداد والعلم، والاستبداد والمال، والاستبداد والاخلاق، والاستبداد والتربية، والاستبداد والترقي. واليوم نتطرق الى علاقة الاستبداد بآفة اخرى اوردها الكواكبي ولصيقة بالاستبداد ومتفشية في الدول العربية وهي الاستبداد والمجد.
يقول الكواكبي في الاستبداد والمجد ان طلب المجد امر مشروع ولكن التَمجلاد هو ما تعانيه الامة متمثلا في التقرب الى المستبد بالفعل كالاعوان والاتباع. يتولد عن ذلك مستبدون صغار يبطشون بالامة ويفسدون في الارض ويخدعون العامة، يُسرفون في اموال الامة في ملذات وتأييد للمستبد واقامة الاحتفالات وتشييد القصور وتعطيل مصالح الناس. يقول جل شأنه «فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ ملاعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ» (الحج ٤٥) فتشييد القصور وتكديس المال في البنوك الغربية في الوقت الذي تعاني فيه المجتمعات الفقر والبطالة هو سبب من اسباب اشاعة الخوف وفقد الامن والهلاك.
يواصل في شأن المتمجدين فيصفهم بأنصار للجور واعداء للعدالة وهم نتاج الاستبداد، يستخدمهم المستبد سماسرة لتغرير الامة باسم خدمة الدين او حب الوطن او هيبة الدولة واستقلالها وسيادتها. في هذه الفئة يعمد المستبد الى التجربة فيحاول افساد بعض العقلاء ظنا منه انه يستطيع تشكيلهم حسبما يريد، فيستقر من ينجح معه وينكل بمن يستعصي افساده، فلا يستمر الا الجاهل العاجز يعبده من دون الله.
عادة تكون هذه الفئة من العريقين الوارثين من آبائهم لذة التمجلاد ومهارة الاستبداد واستمراء ثمن اذلال العباد. يستعملهم المستبد مستخدما سياسة الشد والرخاء، المنع والاعطاء، اشاعة الفساد واثارة الشحناء بينهم كي لا يتفقوا عليه، وتارة يعاقب احدهم باسم العدالة لارضاء العامة، وقد رأينا في بداية الشهر الماضي، في دولة عربية، كيف ان مجموعة من المسئولين خضعوا للمحاكمة بتهمة الفساد واستملاك اراض شاسعة ومنازل فخمة.
الحاصل ان المستبد يُذل الاتباع ويجعلهم مطيعين له قادرين على اذلال الناس. بهذه الحاشية المتمجِّدة يرى المستبد نفسه وقد اصبح إلها بعد ان كان انسانا وتزداد حاجته إلى جيش من المتمجدين لحمايته. المستبد الفاسد والحكومة المستبدة يكونان مستبدين بجميع فروعهما وطبقاتهما: من الشرطي الى الكاتب الى المسئول الى الوزير، بهذا النوع من الحزم يدوم له الحكمِ، الحكومة تصبح حكومة المستبد وليست حكومة الامة، والجيش جيشه وليس جيش الشعب، وامامنا امثلة حية في سوريا واليمن وليبيا. والثمن هو التلاعب والعبث بأموال المجتمع واستباحتها، فيعم الفساد والتملق والنفاق وتصبح قيما شائعة في المجتمع، فيرسل لهم شيوخ الدين ليعظوهم بعد ان افسدوهم، وهو يعلم ان شيخ الدين لن ينجح لأن الهدم اسهل واسرع من البناء والاصلاح.
ان تقرير شكل الحكومة هو اعظم واقدم مشكلة سياسية في تاريخ البشر والمعترك الاكبر لأفكار الباحثين. نجح الغرب في وضع قواعد اصبحت بديهيات لديه ومنفورا منها في الشرق، فالنظام الديمقراطي الشفاف يقوم في الغالب على مبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص وليس على صلة القربى والمحاباة والالديمقراطية تُضعف المتمجدين وتقلل من تأثير الحاشية التي تمنع عن الحاكم ما تريد وتسمح بما ترغب وتتحكم فيما يسمع ويرى، لكننا في العالم العربي مازلنا نصارع وننازع للحفاظ على نظام تجاوزه الزمن ويمنع الانسان من الحياة الحرة الكريمة ويقف عائقا في طريق التقدم والتنمية والرقي، فهل ينجح الربيع العربي في تغيير هذه الصورة وتنقشع الغمامة؟
.