الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٣٨ - الثلاثاء ٣ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٩ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


بشار سرّ أبيه.. وهذه هي الخفايا المسكوت عنها !





يحار المواطن العربي غير المطلع على خفايا الوضع الداخلي في سوريا بتفسير خلفيات ما يجري تداوله على الألسن وفي وسائل الإعلام، هل العلويون كلهم بشار الأسد، وهم طائفيون ومُمَيّزون، ويشاركون - كطائفة - فيما يجري من تقتيل، ولهذا السبب يعمل النظام على إشعارهم بأن أي تحرّك يستهدفه سوف يستهدفهم بالضرورة؟

قبل الإجابة التي لا يمكن أن تُختزل بنعم أو لا، يجدر التنويه بأن تعداد الطائفة العلوية في سوريا لا يتجاوز نسبة ١٢ بالمائة من مجموع أبناء البلد، بينما يُقارب تعدادهم في تركيا ربع السكان، ومع ذلك لم نسمع عنهم جزءا مما يتردد حول وضعهم الاستثنائي في الحالة السورية، لا من حيث الاستئثار بمراكز القوة العسكرية والأمنية ولا التميّز الطائفي عن سائر المواطنين الآخرين من أبناء بلدهم، فما هو سرّ ذلك، ولماذا لم تنشأ في تركيا الجارة مثل هذه الحالة من التكتل «السلطوي» لأبناء طائفة معيّنة وبهذين القوّة والحضور؟

إذا كان جواب البعض بأن ذلك يعود الى كونهم محاصَرين ومقموعين في تركيا، ولا يستطيعون التحرّك ضد السلطات الحاكمة فيها، فإن هذا أدعى إلى أن يتكتّلوا كطائفة أقلية وكبيرة في الآن عينه إذا أصابهم غبن أو كانت حقوقهم منقوصة أما في سوريا فلم يكونوا كذلك على الدوام، رغم محاولات الاحتلال الفرنسي اللعب على غريزة حقوق الأقليات ومحاولة تقسيم الجسد السوري الى دويلات ذات صبغة طائفية وعرقية.

في سوريا لم يكن الأمر كذلك بعد الاستقلال، سواء قبل الوحدة مع مصر أم بعدها، ولا نذكر أي مؤشرات على تعصّب فئوي، ولا تكتل عسكري أو مدني لطائفة داخل أجهزة السلطة أو خارجها.

فهل يختلف علويّو سوريا الآن عن نظرائهم في تركيا، أم أن النظام أو بالأصح رأس النظام هو الذي اختلف؟

إن نظرة ممعنة لبدايات نشوء هذه الحالة ترينا كيف أنه منذ قيام حافظ الأسد بانقلابه الذي أطلق عليه اسم «الحركة التصحيحية» ضد رفاق دربه، قد بدأ - وهو العسكري ابن الطائفة التي لم يصل أحد منها في تركيا الى مثل ما وصل إليه - بتركيز اهتمامه الأساس في استقطاب أبناء طائفته من خلال تسريبهم إلى قلب المراكز الحساسة، وتسهيل سبل انضمامهم الى المؤسستين العسكرية والأمنية بشكل خاص.

ولما كانت أغلبية شباب الطائفة من أبناء الطبقة الكادحة، فقد كان من الطبيعي أن يُشكّل انضمامهم إلى الجيش وقوات الأمن والمخابرات طموح معظمهم. وهكذا فتحت أمامهم الأبواب الواسعة للتكتل، من دون أن يكون لهم بالضرورة ناقة ولا جمل في بواطن هذا التوجه، الأمر الذي مكّنه من التفرّد الكامل بالسلطة.

وهكذا عرف حافظ الأب كيف يؤسس معادلته الخاصة.

فإذا كان أي نظام ديمقرطي لا يحتاج إلى سند من فئة بعينها، لأنه يحظى بثقة أغلبية الشعب، فإن المسِك برأس الحكم الدكتاتوري الفردي يحتاج إلى فئة يراها سنده المضمون والأقرب إليه بمقياسه، فيشعرها من جهة بأنها مميّزة وأن مصيرها مع مصيره وقوتها من قوته، ثم يشعرها من جهة أخرى بأن وضعها هذا سيجعلها إذا ما تمّ استهداف النظام هدفا لأعدائه، أي ستصبح وإياه في خانة الملاحَقة والحساب ذاتها، وهو ما يدفعها الى الاستماتة دفاعا عنه.

وفي ظل هذه المعادلة التي لم تعد سرا مع الأيام، كُرّست هيكيلية معيارها الأول تقريب الأكثر وثوقا والتزاما بما يُضمره ويخطط له القائد.

وهذا لا يعني بالضرورة الأعلى رتبة. لذلك لم يتوان حافظ الأب ومنذ بداية اعتماد هذا النهج عن التخلّص من أي ضابط علوي مهما علت رتبته إذا لم ير فيه الولاء المطلق بمقياسه الخاص، وهذا يؤشر إلى أن المشكلة الأساسية لا تكمن في الطائفة ذاتها، بل في الرأس الطائفي الذي استغلها لمآربه، لأنه رأى فيها ضمانا أكثر وثوقا من غيرها، تماما كما استشعر ذلك معمر القذافي في وقت لاحق عندما ارتأى في قبيلة القذاذفة سندا له وضمانا لجماهيريته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى علي عبدالله صالح وقبيلته التي يقال انها سنحان أو نصف حاشد، ناهيك عن عصابة مبارك الفاسدة و«شبّيحة» نظامه.

كما يؤشر أيضا إلى أن تمكين التكتل الطائفي من الاستحواذ على الجيش والأجهزة الأمنية لم يكن تنفيذا لقرار اتخذته الطائفة ذاتها، ولا تتحمل هي مسؤولية استشرائه وتداعياته الخطرة، بل تنفيذا لرغبة الحاكم الفرد الذي عشّشت في ذهنه فكرة الاستئساد على وطنه وأبناء شعبه، مسنودا بتكتل أبناء طائفته وسيطرتهم على المواقع التي يعتقد أنها تمثل سياج الحماية له، معتمدا في ذلك على مقياس النسب الطائفي بدل مقياس الالتزام الوطني والسياسي.

وارتأى في هذا الاعتماد صيغة تضمن إيقاف مسلسل الانقلابات التي شهدتها سوريا تباعا في السابق.

ويكفينا للدلالة على مدى نياته وتعمّد إقصائه الأكثرية والعمل على تمييز أقليته في الآن عينه، مقارنة نسبة الضباط العلويين عند استيلاء حافظ على السلطة بانقلابه «التصحيحي» بنسبتهم في هذه الأيام، لكي نرى أن تعدادهم في عام ١٩٧٠ لم يتجاوز ثلث مجموع الضباط (وهي مع ذلك نسبة تعادل ثلاثة أضعاف نسبتهم الى مجموع أبناء بلدهم، وقد ساعد على ارتفاعها من دون ضجيج المجموعة الحاكمة التي انقلب عليها في عام ١٩٧٠).

أما الآن فقد تعدّوا عتبة ٩٠ بالمائة، علما بأن نسبتهم ونسبة غيرهم من سائر الطوائف لم تكن قيد الملاحظة والتدقيق في الحقب الماضية، لأن قضية التمييز والتفرقة بين انتماء هذا وذاك لم تكن مثار اهتمام الشعب المتآخي.

أما وقد حصل ما حصل، وتعزّز هذا النّفَس أكثر وأكثر بالطريقة التي فُرِض فيها الإتيان بابنه بشار رئيسا من بعده بين ليلة وضحاها، من خلال المسارعة إلى تعديل الدستور لـ «شرعنة» سِنّه على مقياس التحديد الجديد، كأن سوريا بتاريخها وتراثها لم تُنجب غير ابن صاحب هذا النهج الإقصائي والتمييزي المدمّر، فإنه لم يكن غريبا وقتها حيث الموات الشعبي يسود الوطن الكبير من محيطه الى خليجه، ألا يتحرك أحد ولا تدهش الطائفة التي تختص نخبة من أبنائها بمهمة حماية النظام والدفاع عنه.

لكن الأمر اختلف بعد أن اندلعت مؤخرا ثورات الربيع العربي مطالبة بإسقاط الأنظمة الدكتاتورية وسدنتها، وبإزالة مظاهر الفساد وتخريب المجتمع، وكان لسوريا نصيب الأسد الحقيقي فيها، فأصبح من الطبيعي أن تتعالى النداءات المطالبة كل مكونات المجتمع وفي مقدمتها طائفة الرئيس بتحديد مواقفها مما يجري، ورفع الصوت تنديدا بعملية التقتيل الجماعي، وكان من الطبيعي أيضا أن يُسارع شرفاء العلويين الذين لم يُشاركوا في لعبة النظام ولم يصبحوا وقودا لتطلعاته إلى إعلان مواقفهم الصريحة من ممارساته الوحشية، رغم إدراكهم أن خروج العَلويّ ضد «نظامه» يُعتبر حسب منطق النظام قد ارتكب جريمتين لا جريمة واحدة، بالنسبة إلى غيره من أبناء الوطن:

أولاهما: خيانة نظامه وثانيتهما: خيانة طائفته.

ومع ذلك، فإن أكثر من مرجعية دينية وعائلية بارزة أعلنت موقفها الصريح بجرأة وقوة، كان من أبرزها البيان الذي أصدره بتاريخ ١٢ سبتمبر الماضي ثلاثة من كبار مشايخ الطائفة العلوية بمدينة حمص، هم: مهيب نيصافي وياسين حسين وموسى منصور، أعلنوا فيه براءتهم من جرائم النظام، مع لفت الأنظار الى أن قيادات علوية قد تعرّضت هي الأخرى للاضطهاد من قبله، وأن الكثيرين من أبناء الطائفة يناضلون مع إخوانهم من أبناء الطوائف الأخرى في المعارضة السورية لإسقاطه والانتقال الى الديمقراطية. وانطلاقا من هذه الحقيقة دعا المشايخ الثلاثة إلى عدم الوقوع في الخطأ واتهام العلويين كطائفة بما يقوم به النظام الذين هم أيضا ضحيته.

بعد ذلك بأقل من شهر، صدر بيان آخر بالروحية نفسها على موقع الفيس بوك، وقّعه عدد من الشخصيات التي تمثّل أبرز العائلات العلوية، كرّروا فيه إعلان التبرؤ من «الحكم الدكتاتوري الفرد الذي يعتمد على مجموعة من الانتهازيين من كل الطوائف، ويستخدم فقراء العلويين كجيش انكشاري لحمايته» كما ورد نصا، ودعوا فيه الى ضرورة التمييز بين محاسبة أركان النظام والمرتبطين به ومحاسبة الطوائف التي ينتمون إليها.

هذا الكلام «الاعتراف» إن صح التعبير، لم يكن أصحابه مجبَرين على أن يخرج من أفواههم بهذه الصياغة التي تستفزّ رأس النظام ومن معه إلى أقصى حد، الهمّ إلا إذا كان يعبّر فعلا عما في داخل الشريحة غير المتورّطة من الطائفة مع النظام، وهي الشريحة التي ترى أن للوطن أولوية على الطوائف والأفراد. بمعنى كان يمكن أن يأتي عموميا وعائما في تعابيره الشاجبة لما يحصل، مثلها مثل عموميات بعض قوى المعارضة التي تمسك عصا «الإصلاح» من الوسط.

لا ننفي هنا أن النفَس الطائفي يفوح من البعض، ويداعب البعض الآخر في سوريا، لكن لا هؤلاء ولا أولئك هم الطائفة، ولهذا ما أحوجنا في هذه الأيام التي تتطلّب حشد كل قوى الشعب الخيّرة الى التركيز في فضح النظام والعمل على كسب كل من يستنكر نهجه - خصوصا من أبناء الطائفة العلوية - حتى نردّ جميعا كسوريين على معادلة حافظ الأب التي أمعن ابنه في تعميقها، ونُثبت أن طائفيته شيء والطائفة - أي طائفة - شيء آخر!

* كاتب سوري يقيم في باريس



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة