فيلم هتشكوك المرعب
 تاريخ النشر : الأربعاء ٤ يناير ٢٠١٢
بقلم: د. إسماعيل محمد المدني
عندما كنت صغيراً في السن، وبالتحديد في مايو عام ١٩٦٣، تم عرض أحد أشهر الأفلام السينمائية لمخرج الأفلام ألفرد هتشكوك )kcochctiH derflA( الذي كسب سمعة عالمية في إخراجه أفلام الرعب والإثارة والخوف، وهذا الفيلم الذي عُرض سنواتٍ طويلة وحقق انجازات كبيرة في عالم السينما في ذلك الوقت ونال العديد من الجوائز، يعرفه الجميع حتى يومنا هذا، وهو فيلم الطيور )sdriB ehT(.
فقد نقش في مخيلتي بعض المناظر المفزعة التي ظهرت في الفيلم، منها مشهد آلاف الطيور وهي تنزل كنزول المطر على المنازل في الحي، فتهز الأسطح، وتكسر النوافذ، وتدك الأبواب، فتقشعر لها جلود أصحاب هذه المنازل في المدينة وتصل بهم درجة الخوف والفزع إلى إصابتهم بالجنون وارتفاع أصواتهم وسقوطهم على الأرض مغشيا عليهم.
وهذا الفيلم لم يكن كله من نسج الخيال ومن إيحاءات كاتب هذه الرواية، أو من إبداعات هتشكوك في إحداث الرعب والفزع في قلوب المشاهدين، وإنما الكثير منه استخلص من مشاهد حية وقعت فعلاً في بعض المدن في الولايات المتحدة الأمريكية، منها ما وقع على الشواطئ الشمالية لولاية كاليفورنيا جنوبي مدينة سان فرانسيسكو في ١٨ أغسطس عام ١٩٦١، في خليج مونتري )yaB yeretnoM(، حيث استيقظ سكان مدينة كابيتولا )alotipaC( على أصواتٍ مخيفة جدا، أصواتٍ قوية ومستمرة تضرب أسطح منازلهم، فشاهدوا من خلال النوافذ منظراً غريباً لم يروه قبل حتى في أحلامهم، فقد رأوا بأم أعينهم الآلاف من طيور النورس من نوع السوتي )retawraehS ytooS( وهي في حالة هجوم مباشر على منازلهم، وشاهدوا هذه الجماعات الكثيفة من الطيور وهي تسقط صرعى على أسطح منازلهم، كأنها عملية انتحارٍ جماعي لهذه الطيور.
وهذا المنظر المرعب والغريب تكرر مرات عدة في الخليج نفسه، منها حادثة الموت الجماعي لطيور البجع في عام ١٩٩١، عندما شاهد سكان المدينة هذه الطيور وهي تتصرف بجنون وبطريقة غير عادية ثم تسقط على الأرض وتموت.
ولكن ربما يسأل القارىء ما الذي ذكرني اليوم بفيلم الطيور، وبهذه الحوادث التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الطيور؟
منذ عام ١٩٦١، عندما وقعت كارثة موت الطيور الأولى، والعلماء في حيرة من أمرهم، والدراسات والبحوث حول الأسباب وفك شفرات هذا اللغز لم تتوقف، فالادعاءات غير العلمية والخيالية زادت منذ ذلك الوقت، حتى جاء الخبر اليقين من علماء الأحياء البحرية في جامعة ولاية لويزيانا الأمريكية، حيث أكدوا أن هذه الطيور كانت ملوثة بمادة كيميائية حامضية سامة للإنسان والحياة الفطرية وتتلف أعصاب المخ، وهي حمض الدوميك )dica ciomod(، ونشروا نتائج دراستهم في مجلة «طبيعة علم الأرض» )ecneicsoeG erutaN( في العدد الصادر في يناير ٢٠١٢، تحت عنوان: «الغموض وراء طيور هتشكوك».
فقد قام هؤلاء العلماء بتحليل عيناتٍ من أمعاء هذه الطيور، وعينات من السلسلة الغذائية التي تعيش عليها، مثل الكائنات النباتية العالقة في الماء كالطحالب، والأسماك بمختلف أحجامها، فأكدوا أن هذه الكائنات النباتية والحيوانية التي هي جزء من غذاء الطيور ملوثة بحمض الدوميك، ولكن من أين جاء هذا الحمض السام ليلوث الطيور؟
إن التحريات المخبرية التي قام بها العلماء ومراقبتهم تحركات هذا السم في السلسلة الغذائية، أكدت أن مخلفات المزارع ومياه المجاري التي تصرف في البيئة الساحلية تؤدي إلى الطفرة الشديدة في نمو الطحالب الخضراء والحمراء التي تفرز سموماً وملوثات تؤثر في الأعصاب، من بينها حمض الدوميك، الذي ينتقل مع الوقت من هذه الطحالب التي لا ترى بالعين المجردة إلى المحار وسرطان وبلح البحر، ثم إلى الأسماك، وأخيراً إلى الطيور والإنسان اللذين يتغذيان على المحار والأسماك الملوثة، فإما أن تسبب لهما الأمراض الحادة، وإما أن تلقيهما صريعين ميتين لا حول لهما ولا قوة.
وخلاصة القول فإن هذا الموت الجماعي للطيور الذي ظهر في فيلم هتشكوك يؤكد حقيقة علمية تحدثت عنها كثيراً وهي أن التلوث يبدأ بالإنسان، فهو مصدر التلوث الرئيس، وهو أول من يتضرر من هذا التلوث.
.