من مفكرة سفير عربي في اليابان
قيادات الألفية الثالثة ودبلوماسية المستقبل (٢)
 تاريخ النشر : السبت ٧ يناير ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن*
لاحظنا في الجزء الأول من المقال كيف ضاعت الخيرات الطبيعية للبشرية بين صراعات انفعالية أدت إلى حربيين عالميتين في الجزء الأول من القرن العشرين، وانتهت بانهيار النظام الشيوعي السوفيتي مع نهاية القرن. وما أن طلع علينا شمس القرن الحادي والعشرين، وإذا بأزمة جشع عالمية، أدت إلى قرب انهيار النظام الرأسمالي العالمي، واحتاج إنقاذه إلى تريليونات من الدولارات، ليؤدي كل ذلك لارتفاع نسب الديون الغربية بشكل غير مسبوق، لتقرر حكوماتها التقشف الشديد. وقد أدت هذه التراكمات لانتفاضة عولمة ستغير عالم القرن الحادي والعشرين. وقد أنذر زعماء العالم لهذه الإرهاصات سابقا، ومنذ بدايات القرن المنصرم، فقد كرر الرئيس الأمريكي، ودرو ويلسون، أن: «النظام العالمي يجب ان يعتمد على قرار تحدد كل دولة مصيرها، لا على الفكرة البائدة، لتوازن القوى العالمية»، التي لم تؤد إلى معاناة الإنسان وحروب القرن العشرين الدموية. كما أكد الرئيس الأمريكي، جون كيندي، ان: «القوة الأكثر فاعلية اليوم ليست الشيوعية، ولا الرأسمالية، ولا حتى الصواريخ العابرة للقارات، بل هي الرغبة الأبدية للإنسان أن يكون حرا، والعدو الأكبر لأي نظام اليوم هو الدكتاتورية والامبريالية. وتحدي السياسة الخارجية الأمريكية هي كيفية معالجة هذه التحديات».
ولنتذكر عزيزي القارئ كمية الأموال التي هدرت، وسعادة الشعوب التي فقدت، بتكرر حروب القرن العشرين، الذي اعتبرته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبرايت، بأنه «من أكثر القرون دموية في تاريخ البشرية». ويبقى السؤال: هل هناك طريقة أفضل لتواصل الدول مع بعضها بعضا لمعالجة تحديات العولمة؟ وهل ممكن تحويل الصراعات الدولية لفرص بناء وتطوير مشتركة؟ وهل نحتاج إلى دبلوماسية جديدة في الألفية الثالثة؟ وكيف سنختار دبلوماسيي المستقبل؟ وما هي المميزات المطلوب توافرها فيهم؟ وما نوع التعليم والتدريب اللذين سيحتاجون إليهما ليتعاملوا مع تحديات العولمة القادمة؟ وهل سيحتاج كل ذلك إلى طريقة تفكير جديدة؟
تعتقد وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبرايت، أن: «الدبلوماسي يحتاج إلى ضمير القساوسة، وحكمة الفلاسفة، ونبوءة الرسل»، وأن: «الدبلوماسية هي فن الإقناع، لنشجع الآخرين، على أن يفعلوا ما نتمناه، وتحتاج إلى مزيج من الواقعية والمثالية، تتوسطهما الأخلاقيات». فقد أكدت دراسة التاريخ أن: «لا أحد يأكل من شجرة اللاأخلاقيات بحصانة»، كما قالها صديق بسمارك، فون رون، بعد أن راقب تجربة صديقه في توحيد ألمانيا. وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، هنري كسينجر، بقوله: «لقد بذر بسمارك ليس فقط الأهداف الاستراتيجية لبلاده، بل أيضا مأساتها في القرن العشرين». لذلك يحتاج دبلوماسيو الألفية الثالثة إلى ذكاء فكري، يستطيعون به جمع المعطيات اللازمة للتعامل مع الأزمات الدولية، كما عليهم معرفة الطريقة الصحيحة لجمع هذه المعلومات، لكي يقوموا بدراستها وتحليلها، لينتهوا بقرار يساعد على التعامل مع الأزمات، ليقلل من خسائرها، ويزيد من مصالحها لبلدانهم، والبلدان المرتبطة بهذه الأزمة.
ولنتذكر أيضا أنه حينما يكون هناك خلاف علينا أن نتهيأ لفوز الطرفين المختلفين، وبأن الرعونة الانفعالية لن تفيد في الألفية الثالثة، للتعامل مع الأطراف الضعيفة، لتوافر تكنولوجية الهجوم الصغيرة والحديثة، التي قوت الضعفاء في الاعلام الالكتروني الاجتماعي، وعززت مقاومتهم في المواجهات العسكرية، حيث يمكنهم الانتشار بين السكان لشل حركة العساكر النظامية. كما أن مآسي القرن العشرين بحروبه العالمية الساخنة والباردة، التي لم ينتصر فيها أحد، بل انهزم البعض في القرن العشرين، بينما تأخرت هزيمة البعض الآخر للقرن الحادي والعشرين. فمع أن اليابان وألمانيا انهزمتا في القرن العشرين، استطاعت هاتان الدولتان تحويل الهزيمة لانتصار في القرن الحادي والعشرين، بالاستفادة من دراسة أخطاء الهزيمة ورعونتها، والعمل بجهد وإخلاص وحكمة، لبناء المستقبل، بينما استمر الحليف المنتصر في رعونته بإيجاد حروب متكررة، ولينتهي اليوم بالإفلاس، وأزمة الديون.
كما أن الذكاء العاطفي مهم جدا في دبلوماسية الألفية الثالثة، وهو غريزة الإحساس، والتواصل، والتعرف، والتذكر، والتعلم، والتعامل مع العواطف، للاستفادة منها في تحويل الخلافات لفرص نجاح مستقبلية للطرفين المتنازعين، وقد عبر الفيلسوف اليوناني أرسطو عن السيطرة على الانفعالات والعواطف بقوله: «أي منا ممكن أن يغضب، فذلك سهل جدا، ولكن أن نغضب مع الشخص الصحيح، وبدرجة صحيحة، وفي الوقت المناسب، ولهدف حقيقي، وبطريقة صحيحة، ذلك ليس سهلا». ويبقى السؤال: هل سنحتاج أيضا إلى طريقة تفكير جديدة؟ أليست مآسي البشرية في القرن العشرين، نتيجة تفكير أعوج؟ وقد حاول البروفيسور ادوارد ديبونو، أستاذ علم التفكير بجامعات هارفارد، وستانفورد، وأكسفورد، وكامبريدج، الإجابة عن هذا السؤال بتوجيه أسئلة اضافية، فقال: «هل يجب أن تكون طريقة تفكيرنا طريقة إقصائية، أم طريقة وضع احتمالات، ودراسة كل منها، بعقل منفتح، ومن دون أحكام مسبقة؟ وهل يجب أن تكون طريقة تفكيرنا المستقبلية مرتبطة بالدراسة لاكتشاف الحقيقة، أم العمل لتصميم إبداعات جديدة؟ ولماذا نضيع الوقت الكثير لاكتشاف الحقيقة؟ وما هي الحقيقة التي نبحث عتها؟ وكيف نعرف أننا وجدناها؟ ولماذا نعتقد أصلا هناك حقيقة يمكن أن نجدها؟ وهل سبب فشل تعاملنا مع المعضلات العالمية مرتبط بطريقة غير متكاملة من التفكير؟»
وهنا علينا أن نتذكر الحكمة الآسيوية: «الحياة هي البحث عن الحقيقة، ولكن في الواقع ليس هناك حقائق، بل ان جميعها احتمالات متناقضة» كما يقترح البروفيسور ادوارد ديبونو طريقة جديدة للتفكير، وهي طريقة التفكير المتوازي، أي أن نضع الأفكار والآراء المختلفة، بجنب بعضها بعضا، ونقيمها، بطريقة مبدعة، ومن دون أحكام مسبقة. كما نحتاج إلى تطوير التعليم، ليكون وسيلة للتعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين، كما قالها البروفيسور اون ستج تان بأن: «يرتبط تعليم القرن الحادي والعشرين بالتعامل مع تحديات عالم حقيقية، معقدة، متشابكة، ونحتاج إلى تعليم يعتمد على التعامل مع المعضلات لمعالجتها، باحتضان الذكاء ضمن الأفراد، والمجموعات، والبيئة، للتعامل مع الأزمات بطريقة مرتبطة بالمجتمع بواقعية مناسبة».
كما أن المهنية مهمة في العمل الدبلوماسي، التي تتميز بالجمع بين الصفات القيادية، والمسئولية، والمحاسبة، والتميز، والاضطلاع الواسع، والثقافة العالية، والاحترام الإنساني للآخرين، مهما كانت درجتهم، ومسئولياتهم، بالإضافة لتوافر نفسية تجمع بين القدرة المتميزة في التواصل، والتعاطف، والشرف، والأخلاقيات السوية، والاستقامة، والغيرية، أي حب الغير، بأن تحب لغيرك ما تحب لنفسك، وأن تحب لبلد الآخرين، ما تحبه لبلدك. ومع انتشار الديمقراطية في وطننا العربي، علينا أن تذكر بأن على القيادات أن تكون مستعدة لمخالفة الرأي الشعبي، فالقيادة الحقيقة تستطيع أن تنير الرأي الشعبي، حينما يكون مخطئا، كما أكدها الرئيس الأمريكي جورج واشنطون. كما علينا تذكر حكمة فيلسوف الحروب الصيني، صان تسو، في قوله بأن: «القوة العسكرية تكون متميزة، حينما نستطيع أن نحقق أهدافنا، من دون استخدامها».
وليسمح لي عزيزي القارئ بإنهاء المقال، بمقولتين، إحداهما لبروفيسور الاقتصاد والفلسفة بجامعة هارفارد، امارتيا سن، يقول فيها: «توردت حضارات العالم حينما استعارت الأفكار، والإبداعات، والاختراعات من جميع أنحاء العالم». ومقولة نظرية الارتقاء والتطور، بأن: «الأجناس الأقوى ليست هي التي تستمر في الحياة، فالديناصورات القوية انقرضت، ولا حتى الأجناس الأذكى، فالإمبراطورية البريطانية انهارت، بل الأجناس التي تتلاءم مع التغيرات المحيطة بها». ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستعتبر قيادات الأنظمة العالمية من انتفاضة العولمة، لتصلح أوضاع بلادها، قبل أن تقوم نظرية التطور والارتقاء بتغييرهم؟
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.