مدرسة في الثبات والمبدئية والتواضع
 تاريخ النشر : الثلاثاء ١٠ يناير ٢٠١٢
بقلم: معن بشور
قلّة هم الذين حملوا مشعل الثورة منذ سنوات عمرهم الأولى حتى الرحيل الأخير، وبقوا مع ذلك يحملون نقاء البدايات، وصدق الرسالات، وصفاء الثورات، من هذه القلّة كان الطبيب عبدالقدوس المضواحي اليمني العربي المؤمن، الناصري القومي المنفتح.
لكن عارفي أبي إيهاب عزّ عليهم أن ينطفئ قلب هذا الثائر المستديم المستقيم في اللحظة التي كان فيها حلمه بالثورة في بلده وأمته قد بدأ التحقق، فهل هي قسوة القدر أن يحرم مناضلا من رؤية ثمار نضاله، أم أنها رحمة الله تكمن في أن يغمض عبد القدوس عينيه على صور لشعبه يحتل الميادين، ويحرك المظاهرات، ويطلق الشعارات التي أفنى عمره وهو يسعى لإقناع الآخرين بها؟
منذ أن تعرّفت إلى عبدالقدوس المضواحي عام ١٩٨٧، وكان يعمل في مستشفى في صنعاء، وهو تحت المراقبة الأمنية على مدى الليل والنهار، عرفت نموذجاً من المناضلين الذين يجمعون بجدارة بين صبر يستعين عليه بالتفاؤل، وبين تصميم مغمس بروح الثبات، وبين جرأة معزّزة بالإيمان، وبين شجاعة مقرونة بالتواضع.
امتزجت حيويته النضالية بدماثة أخلاقية أصيلة، كما اقترنت صلابته المبدئية بانفتاح إنساني مميّز، فكان محباً لكل من حوله ومحبوباً من كل من عرفه.
حين أُجبر على مغادرة صنعاء في عام ١٩٧٨، بعد مشاركته في قيادة حركة ١٣ يونيو الناصرية الثورية متنقلاً بين عدن ودمشق وبيروت وغيرها من المدن والحواضر العربية، لم يسقط في عيوب كثيراً ما ترافق اللجوء السياسي، فلم يتساهل في علاقاته، ولم يساوم على مواقفه، ولم يجمع الأموال على حساب شعبه، ولم يحرض أجنبياً على وطنه، ولم يتساهل في حق لأمته من أجل حل مشكلة شخصية أو حزبية. وحين عاد إلى صنعاء بعد اتفاقية الكويت الشهيرة عام ١٩٨٦، كان أبرز الرافضين لتقديم أي تنازل لحكم علي عبدالله صالح كثمن لعودته إلى بلده لأن إقامته في وطنه حق لا يستطيع أحد أن يساومه عليه.
لم تقده معارضته الدائمة للنظام إلى أن يقدم أي تنازل على حساب مبادئه، فتحمس للوحدة بين شطري اليمن، وكان نائباً في مجلسها الموحد، كما رفض بالمقابل أخطاء النظام وخطاياه من دون أن يجد فيها مبرراً للعودة إلى التشطير، لأن الانفصال ليس حلاً، كما قال آنذاك المؤتمر القومي العربي وقد كان أبو إيهاب أحد أبرز مؤسسيه وعضواً في أمانته العامة عدة سنوات.
وما كان يعتبره البعض تزمتاً حزبياً و«انغلاقاً» ناصرياً لدى عبدالقدوس المضواحي كان يتراجع بوضوح أمام حرصه الدائم على التلاقي بين التيارات العقدية والسياسية اليمنية، الإسلامية منها والقومية واليسارية والليبرالية، فهو ابن مدرسة تؤمن أن الممر الإجباري لنهوض الأمة يكمن في تلاقي قوى الأمة وتياراتها الرئيسية على مشروع نهضوي، وفي أطر تكامل وتفاعل وتحاور وتشاور، تجمع بينها بعيداً عن شعارات تفرّق، وممارسات تقصي فريقاً لصالح آخر.
قلّما انعقد مؤتمر عربي أو ملتقى دولي أو ندوة فكرية إلاّ وكان لأبي إيهاب حضور لافت، وحركة دؤوب، وسعي حثيث لجمع الصفوف وصون المبادئ.
وإذا كان اليمنيون يذكرون لثورتهم السبتمبرية الأولى عام ١٩٦٢، رموزا وشهداء مهّدت لها، وشاركت في التحضير لانطلاقها والإعداد لانتصارها، فمن الصعب أن ينسى يمني واحد دور عبدالقدوس المضواحي في التمهيد لثورته الشعبية المستمرة، والتحضير لانطلاقها، والإعداد لانتصارها في أصعب الظروف، وفي أكثر المراحل ظلمة وظلماً.
أما العروبيون والناصريون الشرفاء على امتداد الأمة، فلا يمكن أن ينسوا أنه حين بات القابضون على عروبتهم كالقابضين على الجمر، وحين أصبح الأوفياء، من دون مقابل، لجمال عبدالناصر قلّة تواجه بشجاعة الاتهامات من هذا الطرف أو ذاك، كان عبدالقدوس المضواحي واحداً من أولئك العروبيين والناصريين الذين ما تساهلوا يوماً في هويتهم وعقيدتهم ووفائهم.
أبوإيهاب سنفتقدك كثيراً يعد اليوم، لكننا سنبقى أوفياء لكل المبادئ والرموز التي بقيت وفياً لها.
.