الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٤٩ - السبت ١٤ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٠ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

الربيع العربي والثورة الإيرانية (١)





يبدو أن الأوضاع في منطقة الخليج العربي أخذت منحى تطورات جديدة، بعد الإنذارات الإيرانية بغلق مضيق هرمز، ورجوع البوارج الأمريكية إلى مياه الخليج العربي. كما سيكون للإسلام السياسي دور مهم في التطورات المستقبلية لإرهاصات ثورات ما يسمى الربيع العربي، وعلى قياداتها مسئولية القرار في اختيار نموذج لنظام حكم معاصر، يحقق لشعوب بلادها التنمية الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وهي أمام نموذجين للاستفادة منهما لتطوير تجربتها العربية، وهما النموذج الثوري الإيراني، والنموذج الإصلاحي التركي. ويعني ذلك الحاجة إلى دراسة متأنية فاحصة للثورة الإيرانية، والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التركية. ولنبدأ عزيزي القارئ مناقشة تجربة الثورة الإيرانية، التي مر عليها أكثر من ثلاثة عقود، وهي فترة كافية لتقييم تجربة ينادي البعض بتطبيقها في بلاده.

وهنا سنحتاج إلى وقفة مراجعة هادئة، غير انفعالية، حكيمة، وبموضوعية متجردة، وبمقياس تقييم أكاديمي علمي، غير ديني، ولا طائفي، لكي نناقش تجربة تاريخ معاصر، غير مرتبطة مباشرة بأمور العبادة الدينية، بل مرتبطة بتحقيق نجاح دنيوي في أمور حياتية سياسية واقتصادية وإدارية. ولكي نستفيد من هذه التجربة علينا طرح الأسئلة التالية: لو لم تنجح الثورة الإيرانية، هل سيعاني العالم إرهاصات الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج، وحرب العراق؟ وبعد ثلاثة عقود ما الذي حققته هذه الثورة للتناغم والسلام العالميين، ولمنطقة الشرق الأوسط، بل للمواطن الإيراني بخاصة؟ هل حسنت المؤشرات الاقتصادية في بلادها؟ وهل يعيش المواطن حريته الشخصية، وكرامته الإنسانية؟ وهل هذا المواطن راض عن نظام بلاده، وديمقراطيته، وعما يجري من إرهاصات جديدة اليوم في بلاده؟ وهل فعلا تتطلع الشعوب العربية لهذا النموذج من نظام الحكم لكي تحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والروحية؟ وهل أثبتت تجربة التاريخ نجاح القيادات الدينية في ادارة الحكم في الدول العصرية؟ وهل سنقيم القيادات الدينية في العمل السياسي والحكومي كبشر مثلنا، أم سنعتبرهم قديسين، معصومين عن الخطأ الحياتي الدنيوي، كما أن إفتاءهم السياسي والاقتصادي الدنيوي معصوم عن الخطأ، ومحرم على المناقشة؟

وليسمح لي القارئ العزيز بمجموعة أخرى من الأسئلة: هل هناك بوادر حرب جديدة بين الغرب وإيران؟ وكيف ستكون نتائجها على منطقة الخليج، وعلى الشرق الأوسط الكبير، وعلى العالم واقتصاده؟ وما السبب وراء تكرار الحروب المزمنة في الشرق الأوسط؟ ولماذا يصر النظام الإيراني على تصدير ثورته للخارج، بدل التفرغ لتطوير اقتصاد بلاده، وتوفير عمل منتج للمواطن، لتحسين مستوى معيشته، مع توفير التعليم والتدريب المتميزين والرعاية الصحية المتقدمة له ولعائلته؟ ولو عاش الامام الخميني، رحمه الله، حتى اليوم، هل سيعتبر الجمهورية الإسلامية نموذجا لثورات الربيع العربي؟ أم سيفضل النموذج التركي للإصلاحات الدنيوية؟ وهل سيقبل بأن يدير شؤون الدولة القيادات الدينية؟

منذ أن تحررت دول الشرق الأوسط من الاستعمار العسكري، تحاول شعوب المنطقة إيجاد طريقها المستقل لتحقيق تنميتها الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وقد طرحت الحركات السياسية، في القرن الماضي، أيديولوجيات متعددة للتغيير، كدكتاتورية الحزب الواحد بالشيوعية، والاشتراكية، والقومية، وديمقراطية الأحزاب المتعددة، بالليبرالية الرأسمالية، وقد نجح بعض هذه الأحزاب في الوصول إلى الحكم بالثورات والانقلابات، لتحكم جميعها باسم الطبقة الكادحة، وبشمولية نظرية الحزب الواحد. وقد صدمت هزيمة عام ١٩٦٧ شعوب المنطقة، وأدت إلى ردة فعل عنيفة بين الشباب، لتدفعهم إلى البحث عن حلول جديدة لتحديات حياتهم اليومية، فلم تتأخر المعارضة في طرح «أيديولوجية» الدين السياسي هو الحل. وقد بدأت هذه الأيديولوجيا في بدايات القرن العشرين، بتأسيس حركة الاخوان المسلمين، وقوي عودها بعد تجربة الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩، ودعمتها الإصلاحات الأخيرة في النظام التركي. وبعد ثمانية عقود من تجربة الحركات الحزبية للإسلام السياسي، وبعد الانتخابات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، وإرهاصات التغيرات الأخيرة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، نحتاج إلى وقفة للدراسة والمراجعة، وخير من درس التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط، واهتم بدراسة الثورة الإيرانية بتعمق هي البروفيسورة الغربية، روبن وايت، وقد جمعت نتائج دراساتها المستفيضة في كتابها: الأحلام والظلال، معضلة الثورات في الشرق الأوسط.

تعلق البروفيسورة وايت في مقدمة كتابها بالقول: «تبين دراسة التاريخ أن الثورات تأكل، عادة، أطفالها، بالاضطرابات والمذابح، وتفشل في تحقيق مثالياتها النظرية الموعودة، ولتنتهي لرد فعل بإرهاصات جديدة، قد تبذر منها نبتة إصلاحات ديمقراطية طويلة الأمد، فقد أنهت الثورة الفرنسية حكم البوربون وأدت إلى العدالة والحريات المدنية، بعد أن تفجرت بعهود طويلة من العنف الدموي والإرهاب، واحتاجت فرنسا إلى قرن من الزمن لتطوير جمهوريتها الديمقراطية، التي لم تكتمل إصلاحاتها حتى اليوم. كما أسقطت الثورة الروسية حكم القياصرة، لتنتج مساواة لا طبقية بنظام سوفيتي، لحكم شمولي، بقي سبعة عقود، ولينتهي انهياره، ببذرة تجربة ديمقراطية مبهمة المعالم. وكان لمنطقة الشرق الأوسط في القرن العشرين نصيبها من ثورات قومية اشتراكية، لم تنته حتى الآن إلى إصلاحات تنميتها وديمقراطيتها المنشودة. وفي عام ١٩٧٩ بدأت تجربة فريدة في إيران، بانطلاق ثورة حماسية جادة، جمع فيها اية الله روح الله الإمام الخميني الإيمان القديم مع التكنولوجيا المعاصرة، لتوحد الليبراليين مع التقليديين، الديمقراطيين مع الشيوعيين، التجار المحافظين مع نشطاء الطلبة الصاخبين، ليلهم الشعب الإيراني بالثورة.

وقد وصفت الكاتبة الثورة الإيرانية بأنها: «ثورة أصيلة بين انتفاضات عدة هبت على المنطقة خلال القرن الماضي، لأنها أنتجت أيديولوجيا سياسية غيرت الطيف السياسي العالمي، وأدت إلى شكل فريد وعنيف من الإسلام السياسي، وبذرت أفكار جديدة عن الديمقراطية، من خلال ثوارها الذين تخمروا بسرعة ضمن النظام الجديد، ثم ثاروا ضده».

وقد توقع الإمام الخميني مجتمعا جديدا بعد هذه الثورة، وصفه في مقابلة مع صحيفة دير شبيجل الألمانية في عام ١٩٧٨ بقوله: «مجتمعنا المستقبلي سيكون مستقبلا حرا، وسيقضي على كل آليات القمع والوحشية والفرض».

وقد عانت الثورة الإيرانية منذ البداية صراعات مختلف القوى الوطنية، واستاء الإمام الخميني بالأخص من صراعات بعض رجال الدين السياسيين على السلطة، وقد وبخهم بمقولته المشهورة في عام ١٩٨١: «توقفوا عن عض بعضكم بعضا كالعقارب». وحينما تفاقمت النزاعات على السلطة في عام ١٩٨٧ كرر انتقاده لهم بالقول: «زرع النزاعات بين علماء الدين من أسوأ الذنوب». فلم يكن راضيا، رحمه الله، بأي دور لرجال الدين في السلطة، لإيمانه بأن إغراءات السلطة الدنيوية قد تفسد، وبأن تسلم بعض رجال الدين هذه السلطة وبإدارتهم للسياسة باسم الدين، قد يحول حكمهم مع الوقت لسلطة مطلقة، قد تعيد تجربة استبداد الشاه من جديد. وقد صرح الامام الخميني لصحيفة اللوموند الفرنسية في عام ١٩٧٩ خلال رجوعه إلى إيران بالقول: «نيتنا ألا يتسلم رجال الدين الدولة». وقد وفى بوعده حينما تشكلت أول حكومة إيرانية بعد الثورة من مسئولين تكنوقراط، ولم يكن بينهم رجال دين. وحينما بدأ الشعب الإيراني كتابة دستوره، برزت الخلافات الحادة على السلطة بين التكنوقراط المتخصصين وبعض رجال الدين السياسيين، فعرضت أربعة الاف صياغة للدستور الجديد، وانتهت بصياغتين أكدتا معا ضرورة استمرار التكنوقراط في السلطة، ومنعت تدخل رجال الدين في الحكم، وطالبت ببرلمان قوي لمنع الرئيس من الاستبداد برأيه، كما اقتبست الكثير من القوانين الأوروبية، ولم تعط جميع أطراف النزاع أي دور سياسي لرجال الدين.

لقد وافق الإمام الخميني على الصياغة الثانية للدستور، ومع ذلك لم ينته الصراع على السلطة، ليستمر الخلاف وليطالب مجلس الثورة بانتخاب فريق جديد لكتابة الصياغة الأخيرة للدستور. وقد ترافق ذلك مع خلاف شديد بين الأطراف المتنازعة، ونجح بعض رجال الدين السياسيين، بعد ستة أشهر من بدء الثورة، في الحصول على ثلثي أصوات مجلس صياغة الدستور، بعد أن قاطعت انتخاباته القوى السياسية الوطنية الأخرى. وقد فصل الدستور الجديد السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وأيد حق الانتخاب للمواطنين منذ سن السادسة عشرة، ونجح بعض رجال الدين السياسيين في «فرض سلطاتهم المتوازية القوية على جميع فروع سلطات الدولة من خلال مؤسساتهم الدينية ومعظمها بالتعيين». وحينما زادت النزاعات حول المراكز وقويت مواقع بعض رجال الدين السياسية، اضطر الامام الخميني إلى رفع الحظر عنهم للمشاركة في السلطة، ليؤدي ذلك إلى انتخاب آية الله خامنئي رئيسا في عام ١٩٨١، بل ليخلف الامام الخميني بعد وفاته في عام ١٩٨٩ مرشدا عاما للثورة.

ولنا لقاء.

* سفير مملكة البحرين في اليابان



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة