الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٥٢ - الثلاثاء ١٧ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٣ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


الوفاق بين بيان الأزهر وخبرة تونس





جيد أن يتوافق الجميع في مصر على استعادة روح الثورة، لكن يثير تساؤلنا تصدي الأزهر لهذه المهنة، في حين يدهشنا أن تفشل القوى السياسية في إجراء ذلك التوافق من جانبها.

(١)

لا أعرف ما هي القيمة العملية للبيان الذي أصدره الأزهر يوم الأربعاء الماضي ١١/١، وعرضه على نحو ٦٠ من الرموز والقيادات والشخصيات العامة، وقيل إن الهدف منه هو استعادة روح الثورة. ذلك أن ثمة أسئلة عديدة حول مبدأ الزج بالأزهر في الموضوع، وحول خلفية إصدار البيان والجهة التي أعدته. ثم إن إعلانه قبل أسبوعين من حلول ذكرى انطلاق الثورة في ٢٥ يناير، وما أثير من لغط حول فعاليات ذلك اليوم، يضيف أسئلة أخرى وخصوصا انه دعا إلى التعاون بين شباب الثورة وممثلي الشعب المنتخبين لبناء مصر المستقبل، وإلى جانب هذا وذاك فثمة تساؤل عن تفسير سكوت البيان عن ضرورة تصحيح أخطاء المجلس العسكري ومحاسبة المسئولين عنها، لإتمام المصالحة بين المجلس والمجتمع قبل تسليم السلطة إلى المدنيين.

أعرف أن البيان له قيمته الأدبية والمعنوية المقدرة، شأنه في ذلك شأن ما أصدره من قبل من وثائق، وخصوصا ما تعلق منها بالحريات العامة وهوية الدولة المنشودة. لكنني لا استطيع أن أقتنع بأن قراءة البيان بفقراته الاثنتي عشرة يمكن أن تعد إجماعا ملزما للقوى السياسية في مصر. كما أنني لا استطيع أن أتصور أن الأزهر صار طرفا في اللعبة السياسية في مصر، يطالب بأن يجد موقفا إزاء مختلف التطورات، والأحداث السياسية الجارية. وأستبعد تماما ان يتحول الأزهر إلى بابوية جديدة مشابهة لتلك القائمة في الفاتيكان، لها واجهتها الدينية المعلنة وسلطانها الروحي، لكنها تمارس أدوارا سياسية أكثرها غير معلن، وهو ما سجلته عدة كتب غربية صدرت في الموضوع.

(٢)

إن كثيرين من المثقفين يدعون إلى عدم تدخل الدين في السياسة، لكنهم يسكتون على الوجه الآخر الأكثر أهمية، الذي يتمثل في تدخل السياسة في الدين، بما يؤدي إلى توظيفه لخدمة الأهواء السياسية. وذلك الفصل بين الاثنين نظري حتى في التطبيقات الغربية والعلمانية التي ينطبق عليها ذلك التوظيف السياسي للدين، وهو أوضح ما يكون في الولايات المتحدة وإسرائيل على سبيل المثال.

ولأن التعاليم في المفهوم الإسلامي لا تنظم علاقات المرء بربه فقط ولكن بعضها ينظم المعاملات أيضا، فضلا عن الأخلاق التي هي الأصل والأساس بطبيعة الحال، فإن علماء المسلمين استندوا إلى تلك التعاليم في الدفاع عن المجتمع ومواجهة الحكام الظلمة. وهم الذين تحدثوا عن فقه الخروج على الحكام الظلمة، ودعوا إلى مقاومتهم والقطيعة معهم حتى قال بعضهم إن الفقيه إذا دخل على الحاكم الظالم يفقد اعتباره وتسقط شهادته.

في التاريخ المصري، استطاع السيد عمر مكرم نقيب الأشراف أن يشارك مع العلماء في عزل خورشيد، الوالي التركي وقام بتنصيب محمد علي باشا حاكما على مصر في عام ؟؟؟؟، لكن الوالي الجديد ما لبث أن نفاه وقلص دور علماء الأزهر، كي لا يفعلوا معه ما فعلوه مع سلفه. ومنذ ذلك الحين وأسرة محمد علي تتحسب لدور الأزهر وتحرص على احتوائه وتطويعه. ولم يختلف ذلك كثيرا بعد الثورة في منتصف القرن العشرين، فعبدالناصر أراد أن يستخدم الأزهر ضمن مشروعه الوطني، والسادات أراد له أن يغطي تصالحه مع إسرائيل. ومبارك لم يستخدمه، ليس تعففا ولكن لأنه كان بلا مشروع، فأخضعه لإدارة جهاز أمن الدولة.

إننا نريد للأزهر أن يؤدي دوره مستقلا عن السلطة. ونعلم أنه في الأصل مؤسسة تعليمية ودعوية. ليس لمصر وحدها بل للعالم الإسلامي بأسره. وإذا أراد أن يؤدي دوره خارج ذلك الإطار، فليته يصبح أيضا منبرا للدفاع عن المجتمع وليس السلطة، وصوتا للحق في مواجهة الاستبداد والظلم السياسي والاجتماعي، ودوره في مواجهة الحملة الفرنسية على مصر ليس منسيا. أما إذا لم تمكنه الظروف من أداء ذلك الدور، فإن العالم الإسلامي يظل ينتظر منه الكثير على الصعيدين المعرفي والدعوى.

(٣)

في أحسن الأحوال فإن بيانات الأزهر أسهمت في ترطيب الجو العام، ولم تغير شيئا من الواقع. فالاستقطاب حاصل، ولم يتوقف والجهد المبذول لجمع الفرقاء والبحث في مواصفات لجنة تشكيل الدستور، كما ان اللغط مستمر حول إطار عمل اللجنة وحدود صلاحياتها، الأمر الذي يعني ان الوفاق الوطني المنشود لم يتحقق. ورغم ان نتائج انتخابات مجلس الشعب رسمت لنا خريطة القوى السياسية وحددت أوزان تلك القوى فإن الانجاز الذي حققته لم يسلم من النقد والتجريح. حتى سمعنا أصواتا لجأت إلى التشكيك في صدق تعبير المجلس عن ثورة ٢٥ يناير.

ما لم تحدث مفاجأة في المشاورات الجارية فلا مفر من الاعتراف بعجز القوى السياسية عن تحقيق الوفاق المنشود، وهو موقف يدين هذه القوى جميعها، التي استغرب عدم قدرتها على رصد ما هو مشترك بينها في المرحلة الدقيقة التي يمر بها الوطن. في هذا السياق أزعم أن التجربة التونسية ملهمة في مراعاة تحقيق التوافق بين القوى السياسية. إذ من حسن الحظ أن تلك القوى شرعت في إحداث ذلك التوافق في وقت مبكر. ذلك أن صراعها ضد نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي دفعها في عام ٢٠٠٥ إلى توحيد جهودها ضده، وتقوية موقفها من خلال نبذ خلافاتها والاتفاق على ما هو مشترك بينها. منذ ذلك الحين أداروا مناقشات شارك فيها الإسلاميون والعلمانيون والقوميون والشيوعيون والناصريون وشكل هؤلاء ما سمي بهيئة ١٨ أكتوبر للحقوق والحريات. وقد أسفرت المناقشات عن الاتفاق على المواقف المشتركة بينها في ثلاثة أمور هي: الحريات العامة ــ حقوق المرأة والاتفاق بين الجنسين ــ العلاقة بين الدولة والدين.

ولأنني أحسب أن العنوانين الأولين ليسا محل خلاف كبير في مصر، فإنني سأكتفي بإيراد ما ورد في موضوع العلاقة بين الدولة والدين، وهو أكثر ما يثير الجدل عندنا. إذ نصت الوثيقة على ما يلى:

لقد أبرز تحليل الرؤى والمواقف والتجربة السياسية التونسية المعاصرة حول العلاقة بين الدين والدولة وجود ثلاثة تحديات تواجه الشعب التونسي في تطلعه إلى انجاز تغير ديمقراطي حقيقي وتأسيس علاقة سليمة بين الدين والدولة وتتمثل هذه التحديات في:

١ــ استبداد السلطة الذي من مظاهره اخضاع الدين الإسلامي للإرادة السياسية للنظام القائم وتوظيفه وفي هذا السياق يندرج سعيه الدائم إلى فرض قراءة للدين على المجتمع بما يخدم مصالحه واحتكار الفضاءات الدينية بالتحكم في تعيين الأئمة وفقا لولائهم وتحديد مضامين خطبهم وانتهاك الحريات الشخصية للمواطنين والمواطنات بمختلف قناعاتهم الدينية والفكرية والسياسية.

٢ ــ الاستبداد باسم الدين الناجم عن قراءة أحادية مغالبة للإسلام والذي يؤدى إلى التدخل بالقوة في حياة المواطنين الخاصة وإلى النيل من حقوقهم وحرياتهم الأساسية ومن المبادئ الديمقراطية.

٣ ــ الاستبداد باسم الحداثة الذي يعمل على إلغاء الدين من الحياة العامة بوسائل قهرية من داخل أجهزة الدولة وخارجها ويدفع نحو التصادم بين الدولة والدين وهو تصور لا يؤدي إلا إلى إدامة الاستبداد القائم ودعم انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وتعطيل المشروع الديمقراطي.

إزاء هذه التحديات تلتزم هيئة ١٨ أكتوبر بالدفاع عن رؤية للعلاقة بين الدولة والدين والهوية تنهل من التفاعل الخلاق بين مقومات حضارتنا العربية والإسلامية ومكتسبات الإنسانية الحديثة وخاصة حقوق الإنسان والحريات الجماعية والفردية باعتبارها شرطا أساسيا من شروط التقدم والتنمية والكرامة.

(٤)

في هوية الدولة سجلت الوثيقة النقاط التالية:

١ــ إن الدولة الديمقراطية المنشودة لا يمكن أن تكون إلا دولة مدنية قائمة على مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وتستمد مشروعيتها من إرادة الشعب الذي يتولى في إطار هذه المبادئ انتخاب مؤسسات الحكم بشكل دوري ومحاسبتها ويخضع فيها الحاكم والمحكوم للقوانين والقواعد التي تسنها المؤسسات الدستورية المنتخبة مع ضمان حق كل طرف في استلهام مقترحاته وبرامجه في كل المجالات من مرجعيته الفكرية الخاصة.

٢ ــ إن الممارسة السياسية هي اجتهاد بشري مهما كانت قناعات أصحابها ومعتقداتهم، مما ينفي عنها أي شكل من أشكال القداسة ويجعل المجال السياسي فضاء حرا للحوار والتنافس بين الرؤى وبرامج المكونات السياسية والمدنية على اختلاف مرجعياتها.

٣ ــ إن الدولة الديمقراطية المنشودة تقوم على مبادئ المواطنة والحرية والمساواة. وبناء على ذلك، فهي تسهر على ضمان حرية المعتقد والتفكير ومقاومة كل أشكال التمييز بين المواطنين على أساس العقيدة أو الرأي أو الجنس أو الانتماء الاجتماعي أو السياسي أو الجهوي كما تضمن للمواطنين جميع الحريات والحقوق الأساسية التي تشكل أساس النظام الديمقراطي.

٤ــ إن الدولة الديمقراطية المنشودة تلتزم نصا وممارسة بضمان الحرمة الجسدية للإنسان ومنع التعذيب وكل أنواع الانتهاكات البدنية والمعنوية المهينة للكرامة البشرية. وتتعهد هيئة ١٨ أكتوبر للحقوق والحريات بكل مكوناتها بأن تكون برامجها متطابقة مع تلك المبادئ الأساسية كما تلتزم بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لسنة ١٩٨٤ الخاصة بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهنية وهي تتعهد بوضع الآليات الضرورية لاجتثاث ممارسة التعذيب في بلادنا.

٥ــ إن من واجب الدولة الديمقراطية المنشودة إيلاء الإسلام منزلة خاصة باعتباره دين غالبية الشعب من دون أي احتكار أو توظيف مع ضمان حق كل المعتقدات والقناعات وحماية الحرية تجاه الشعائر الدينية.

٦ ــ إن هوية الشعب التونسي تشكلت عبر صيرورة تاريخية طويلة وهي تثري وتتطور بالتفاعل الخلاق بين مقوماتها الحضارية العربية الإسلامية ومكتسبات الحداثة وبناء على ذلك، فإن الدولة الديمقراطية المنشودة تلتزم:

أ ــ الدفاع عن اللغة العربية لغة وطنية في الإدارة والتعليم والثقافة وتجذيرها في المجتمع مع ضرورة التفتح على اللغات والثقافات الأخرى.

ب ــ تجذير الشعب التونسي من حضارته العربية الإسلامية بكل ما فيها من رصيد ايجابي مع تطويرها لتستوعب مكتسباته الإنسانية الحديثة وتسهم في إثراء الحضارة الإنسانية في إطار من التفاعل البناء مع مواجهة مشاريع الاستلاب والهيمنة التي تسعى إلى القضاء على تنوع الثقافات وفرض نمط ثقافي وقيمي أحادى.

جـ ــ ضمان تدريس مواد التربية الإسلامية خارج أي توظيف سياسي في إطار منظومة تربوية تكفل حق التعليم ونشر قيم التفكير العلمي والنقد والاجتهاد بما يسهم في نحت شخصية تونسية متجذرة في هويتها الوطنية ومتفتحة على القيم العصرية.

٧ــ إن الدولة الديمقراطية المنشودة تدافع عن القضايا العادلة للشعوب العربية والإسلامية بحكم طموحها إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتعمل على توحيد جهودها في مواجهة الاستبداد الداخلي وكل أشكال الاستعمار والهيمنة الأجنبية من أجل تقرير مصيرها وبناء مستقبلها المشترك.

لقد كانت هذه الخلفية التي التقت عليها القوى السياسية المختلفة في تونس، وراء التوافق الناجح الذي تجلى بعد الثورة، الأمر الذي مكنها من ان تنتقل إلى النظام الجديد من دون ألم، وبعد الفشل الذي منيت به الجهود المختلفة في مصر خلال العام المنقضي، من حقنا أن نسأل: هل صحيح أن القوى السياسية في بلادنا محصنة ضد التوافق؟



























.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة