الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٦٣ - السبت ٢٨ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٥ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


الانحراف بالخطاب الديني جريمة بحق الله والوطن





«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ× رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ× لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».. صدق الله العظيم.

عندما وصف الله عز وجل المساجد، فإنه وصفها بأنها بيوت (يذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال.. رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).. فالله جل وعلا، هو الذي أمر بإنشاء وإقامة هذه البيوت ليرفع فيها اسمه. لا لترفع فيها الشعارات السياسية، ولا خطب التحريض وأحاديث الفتنة بين الناس وتفريق كلمتهم وتكفير بعضهم بعضا، وبث الضغينة والكراهية بينهم وفي نفوسهم.

وعندما أراد الله عز شأنه أن يصف القائمين في هذه المساجد وعليها، فإنه وصفهم بأنهم (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).. والتجارة هنا، لا تنحصر فقط في ممارسة التجارة، بل تشمل المتاجرة في الشعارات والدعاوى الدنيوية أياً كانت.

وعندما أراد الله جل وعلا أن يميز بين المساجد التي أرادها، والمساجد التي يريد لها البعض أن تتحول إلى مصادر فتنة وتشتيت لشمل المسلمين، فإنه وصف الأخرى بأنها (مساجد ضرار) لما يصدر عنها وعلى منابرها من الإضرار بوحدة المسلمين وتماسكهم.. قال تعالى (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين..).

وليس ثمة شك لدينا في أن خطباء الجمعة والوعاظ ورجال الدين والعلماء مطالبون بمناقشة مختلف المشاكل والقضايا التي يواجهها الوطن والأمة، انطلاقاً من مسئولياتهم الدينية والاجتماعية والوطنية التي تفرض عليهم التعاطي مع شئون الأمة وأحوال الوطن.. ولكن ما نتوقعه من العلماء، أن يكونوا علماء حقاً عندما يرتقون المنابر، وفي مقارباتهم لقضايا الأمة والوطن، وما ينطقون من كلمات وعبارات وأحكام، وأن تتوافر فيهم ميزة العلماء الذين يبشرون الناس ولا ينفرونهم، ويهدونهم إلى مكارم الأخلاق والسلوك، وينورون سبلهم بالحكمة والمعروف والنصيحة والقول الحسن، من خلال رؤية دينية مستنيرة تعتمد على الدعوة إلى توحيد الصف ونبذ الفرقة وإشاعة مفاهيم التآخي والمحبة والتسامح بين أبناء الوطن الواحد وبين أبناء الأمة العربية والإسلامية بشكل عام.

ولكن - مع الأسف الشديد - فإن ثمة خطباء يحيدون عن ذلك، بتبني مواقف سياسية صرفة ومتطرفة أحيانا، لخدمة أغراض منهجية لديهم أو لخدمة أطراف وقوى سياسية، يمثلونها أو ينحازون إليها.. وهذا بحد ذاته يعتبر مخالفة لما أراده الله من المساجد، وخروجاً على طبيعة وخصوصية هذه البيوت الربانية، التي يفترض فيها أن تكون مصادر هدي واستنارة وموائد وحدة للمسلمين ومحبة وتراحم بينهم.. وأخطر من ذلك وأشد بلاءً أن تتحول خطب الجمعة عند البعض إلى وصايا بالقتل والسحق والتخريب، وأن تمنح من على بعض المنابر هويات دينية للسلوكات الإرهابية والتخريبية..!

إن مسئولية العلماء والخطباء ورجال الدين، أعظم بكثير من مسئولية المعلمين والمفكرين والكتاب والمثقفين.. لأنهم يتحدثون بخطاب مدعوم بالآيات القرآنية والأحكام الدينية، التي يجري تحريفها هي الأخرى عن مواضعها لخدمة أغراض سياسية أو دنيوية. ويجري إيهام الناس بها، والتغرير بهم لممارسة سلوكات يرفضونها بطبائعهم ويعترضون عليها لو جاءت من غيرهم.. ولكنهم ينجرفون إليها بدافع الغيرة الدينية أو الحماسة المذهبية، التي تودي في العادة بآخر معاقل الاستنارة لديهم وتحولهم إلى آلات يتم تحريكها باستخدام «ريموت الدين والمذهب»..!!

إنني لا أستطيع أن أختتم هذه المقالة، من دون أن أوجه مناشدة صادقة إلى جميع العلماء والخطباء - أياً كانت مذاهبهم أو طوائفهم - ضرورة النأي بالمنابر الدينية عن الانغماس في حمأة السياسة وتناقضاتها.. وأكثر من ذلك، أناشدهم التوقف عن الدعوات المتطرفة إلى القتل والسحق والكراهية.. فالإسلام دين المحبة والتسامح، ومنابر الدين خلقت للوعظ والإرشاد وتنوير النفوس وليس لجرها إلى ظلمات الحقد والتخريب وتعريض الناس وحياتهم وممتلكاتهمفي الشأن الوطني: دعوة إلى إحياء المرصد الوطني لترشيد الخطاب الديني

نستذكر اليوم، تلك المبادرة الناصحة التي اقترحها جلالة العاهل المفدى في التاسع والعشرين من شهر يوليو عام ٢٠٠٨، عندما طالب بإنشاء مرصد للخطاب الديني، يهدف إلى ترشيد هذا الخطاب وتخليصه من انحرافاته وما قد تجره عليه أجندات السياسة وأغراضها.. ونحن اليوم أشد ما نكون حاجة إلى إحياء تلك المبادرة والاقتراح الملكي، الذي أضعناه ليوم كريهة وسداد ثغر.. فهل يرى النور قريباً هذا المشروع التقدمي العتيد؟ وهل نتعلم من أخطائنا؟! إذ لم تعلمنا تجارب وأخطاء غيرنا.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة