الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٦٣ - السبت ٢٨ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٥ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

الربيع العربي والثورة الإيرانية (٣)





يبدو أن الأوضاع في منطقة الخليج العربي أخذت منحى تطورات جديدة، بعد الإنذارات الإيرانية بغلق مضيق هرمز، ورجوع البوارج الأمريكية إلى مياه الخليج العربي. كما سيكون للإسلام السياسي دور مهم في التطورات المستقبلية لإرهاصات ثورات ما يسمى الربيع العربي، وعلى قياداتها مسئولية القرار في اختيار نموذج لنظام حكم معاصر، يحقق لشعوب بلادها التنمية الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وهي أمام نموذجين للاستفادة منهما لتطوير تجربتها العربية، هما النموذج الثوري الإيراني، والنموذج الإصلاحي التركي. وهنا سنكمل مناقشة التجربة الإيرانية، لنكرر طرح الأسئلة التالية: هل هناك بوادر حرب جديدة بين الغرب وإيران؟ وكيف ستكون نتائجها على مجتمع العولمة الكبير؟ وما السبب وراء تكرار الحروب المزمنة في الشرق الأوسط؟ ولماذا يصر النظام الإيراني على تصدير ثورته للخارج بالقوة؟ ألم تفشل عملية تصدير الثورات بالقوة في القرن العشرين، بل أدت إلى إفلاس دولها، وانهيارها؟ أليس الأسلوب المعاصر للتصدير الديمقراطي لتجربة بلد ما، هي القوة الناعمة، بعد إعجاب شعوب العالم بنجاحاتها في تحقيق الحرية، والرخاء، والسعادة، والأمان، لشعوبها؟ ولو عاش الإمام الخميني، رحمه الله، هل سيعتبر الجمهورية الإسلامية نموذجا لثورات الربيع العربي؟ أم سيفضل النموذج التركي للإصلاحات الدنيوية؟ وهل سيقبل بأن يدير شؤون دولة معاصرة القيادات الدينية؟

خير من درس التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط، واهتم بدراسة الثورة الإيرانية بتعمق، هي المفكرة والبروفيسورة الغربية، روبن وايت، وقد جمعت نتائج دراساتها المستفيضة في كتابها: الأحلام والظلال، معضلة الثورات في الشرق الأوسط، ولنكمل هنا مناقشتها الثورة الإيرانية، حيث قارنت بين تاريخ التغيرات السريعة في المنطقة وتاريخ الإصلاحات الديمقراطية البطيئة والمتسلسلة في الغرب، التي أدت إلى الإصلاح ضمن الكنيسة وتطور عصر التنوير، والتي مهدت الطريق للأفكار السياسية المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية. فبينما احتاجت عملية الإصلاح في دول الغرب إلى أكثر من أربعة قرون، التي لم تكمل حتى اليوم، ستضطر منطقة الشرق الأوسط إلى حرق مراحل طويلة وبسرعة هائلة لتواجه اليوم تحديات استثنائية صعبة، بين الإصلاح الديني بالاجتهاد، والتغير الجذري لأنظمتها السياسية.

وتبرز هذه الحقيقة في كلمة الجهاد، التي تعني التعامل مع التحديات اليومية ليكون الفرد مسلما حقيقيا، والتحدي الكبير اليوم هو فهم معنى المسلم الحقيقي، وتتحول كلمة الجهاد للمقاومة العسكرية، حينما تتعرض عقيدة الإسلام وبلادها لغزو أجنبي، وقد أصبحت كلمة الاجتهاد مفتاح الإصلاح في منطقة الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، وبحساسية خطرة لقرارها كيف ومن له حق التفسير. وهناك ثلاثة معسكرات أو أفرقة للاجتهاد: فريق يعتقد أن الإسلام كامل بشكله الأصلي منذ القرن السابع الميلادي، وهو نموذج للحياة في أي زمن، وأن مجال الاجتهاد فيه قد أقفل، ولن يؤدي فتحه من جديد إلا للمساومة والفساد في العقيدة ولينتهي بالبدعة والشر. ويتكون الفريق الثاني من معظم فقهاء المسلمين الذين يتحملون الاجتهاد، ويعتمدون في تفسيرهم على قوانين الشريعة، ويتجنبون علم المنطق المعاصر. بينما يعتقد الفريق الثالث الإصلاحي، الذي يمثله فريق من الأكاديميين والعلماء والفلاسفة وقليل من الفقهاء، أن هناك ضرورة للبحث في النصوص المقدسة لتفاسير جديدة، لتطبيقها على الحياة العصرية، وأن فهم البشر للإسلام لم يكن محددا لكل زمان ومكان، بل يتغير هذا الفهم العقلي بتغير تفسير الأشخاص والأوضاع والأزمنة، كما أن هناك حاجة إلى استخدام المنطق والعلوم الحديثة لإثراء العقيدة وإحياء الحضارة الإسلامية، وإصلاح المؤسسات الدينية، ليستطيع الإسلام التعامل بنجاح مع تحديات الألفية الثالثة.

وقد أجرت الكاتبة خلال العقود الثلاثة الماضية مقابلات صحفية عديدة مع قياديي الثورة الإيرانية، الذين كانوا قريبين من الإمام الخميني وملهمين بثورته وأفكاره، «ليخذلوا بتغير مسيرتها بعد وفاته، وليتحولوا اليوم لمعارضة قوية»، ومن أشهر مفكري هذه المعارضة الجديدة الفيلسوف الإيراني عبدالكريم سوروش والكاتب أكبر خانجي، اللذان أطلقا معا ما وصفته الكاتبة بـ«حوار ديناميكي صادق بين المسجد، والدولة، بين الدين والسياسة، بين الديمقراطية والإسلام». فقد درس سوروش علوم الدين والصيدلة في إيران، ثم سافر إلى لندن للتخصص في علوم تحليل الكيمياء وعلوم الفلسفة، وحينما رجع عمل قريبا من الإمام الخميني. وقد عانق الثورة من بداياتها، وعمل لتطوير ديمقراطيتها، وأكد أهمية مرحلة ما بعد الحداثة في إثراء الدين بقوله: «اعتمد العالم القديم على مورد وحيد للمعلومة هو الدين، بينما يعتمد العالم المعاصر على منابع عدة للمعلومة: العقل والخبرة والعلوم والمنطق. وقد كانت الحداثة محاولة ناجحة لتحرير البشرية من دكتاتورية المؤسسات الدينية، بينما تحولت مرحلة ما بعد الحداثة لثورة على الحداثة ودكتاتورية العقل. وفي عصر ما بعد الحداثة أصبح العقل أكثر تواضعا وأصبح الدين أكثر قبولا من الآخرين».

ويعتبر سوروش من الفريق الثالث المؤيد للاجتهاد في التفسير ويعلق على ذلك بقوله: «جوهر الدين سيبقى دائما مطلقا ومقدسا، ولكن سيبقى تفسير البشر، غير المعصومين، للنصوص الدينية نسبيا وليس مقدسا لأنهم بشر، ولذلك يمكن نقد هذا التفسير وتعديله وتنقيته. ولأن المعلومة والخبرة البشرية نسبيتان وغير مطلقتين وتتطوران مع الوقت، لذلك تترافقان بتطوير تفسير البشر للنصوص المقدسة. والتفسير الجامد يخنق الدين، ويحاصر العقل عن إثراء النصوص المقدسة بالاكتشافات الجديدة في خلق الله. كما يتأثر التفسير بالأزمنة والأوضاع التي نعيشها وبفهمنا للعلوم الفيزيائية الأخرى، وليس هناك تفسير بشري مطلق مفرد سرمدي معصوم لتفسير النصوص المقدسة لكل الأزمنة». ويتحفظ الكاتب على فكرة وجود طريق وحيد صحيح يجب أن يتبعه جميع المؤمنين فيقول: «في كل يوم يتوجه المسلمون إلى قبلتهم للعبادة للهدي بالصراط المستقيم، ويعتقد البعض أن الصراط المستقيم فقط هو الإسلام، وباقي الأديان والمذاهب شاذة. وفي رأيي، هناك العديد من الأديان والمذاهب لعبادة الخالق جل شأنه، فنحن نصر على جهلنا، بأن من يخالف عقائدنا سيدخل النار، وبعضهم في الوقت نفسه يعتقدون أننا سندخل النار. وما أحاول قوله هو أن المسيحيين واليهود وكل المؤمنين بالأديان الأخرى هم عباد الله ويعملون بتعاليمه ولخدمته، ولجميعهم عدالة الحق فيما يؤمنون، وقد تبدو تلك بدعة عند البعض، ولكن هناك الكثيرين من يؤمنون بذلك».

ويناقش الفيلسوف الإسلامي سوروش توافق الدين مع الديمقراطية بقوله: «لتكون متدينا، من الضروري أن تكون ديمقراطيا، فالمجتمع المثالي الديني لا يمكن إلا أن تكون حكومته ديمقراطية. ولكي تكون مؤمنا صادقا، يجب أن تكون حرا. كما يجب على المؤمن الحقيقي أن يعتنق عقيدته بحرية تامة، لا بأن تفرض عليه بالوراثة والثقافة الشعبية. فالإيمان بالفرض ليس إيمانا حقيقيا». كما اتفق مع الكاتبة على مقولة الرئيس الأمريكي جفرسون: «خلق الله العقل حرا، وكل المحاولات بالتأثير فيه بالعقاب يخالف الأديان. فخلق الله جميع البشر سواسية، وبحقوق ثابتة منها الحياة والحرية والسعي إلى السعادة»، فقد خلق سوروش بأفكاره الجسر الذهني الذي سمح للإيرانيين بالجمع بين الدين والديمقراطية.

وقد كان الفيلسوف سوروش مؤيدا وقريبا جدا من الإمام الخميني في بداية الثورة في عام ١٩٧٩، ولكن فقد ثقته بالنظام بعد وفاة الإمام وبعد أن يئس من صراعات بعض رجال الدين السياسيين على السلطة، ليعلن في عام ١٩٩٩ خذلانه بنتائج الثورة بالقول: «لن يستطيع أن يستمر هذا النظام بهذه الطريقة، فليس من الممكن أن تفرض بالجبر والعنف دولة دينية، بل تحتاج إلى أن تحتضن وتقبل وتنتخب من غالبية الشعب. واستخدام الدين في السياسة من دون حرية مطلقة، ليس فقط خطأ، بل أيضا خطر وحتميته الاستبداد، فقد تستطيع الحكومة أن تفرض الضرائب، ولكنها لن تستطيع أبدا أن تبعث الإيمان بالله وبالرسل في القلوب بالإجبار. فالايمان مصنوع من نسيج الحب، وحب الخالق جل شأنه لا يمكن أن يخلق بقوة العنف».

ويعلق على تجربة الثورة بقوله: «لقد كانت ثورتنا مصادفة فوضوية ومن دون نظرية، بمعنى لم تدرس بتمعن من القيادة والشعب، فقد كان الإسلام بالنسبة إلى آية الله روح الله الإمام الخميني كل شيء، وكان راغبا في إسقاط الشاه ليطبقه، ولكن لم يتوافر لديه الوقت الكافي ليسهب في التفاصيل. وكان من واجب المفكرين من بعده، أن يوفروا النظريات اللازمة لاستمرارية الثورة، بدراستها وإيجاد منطق معاصر لبقائها، لتكون نتيجتها الإصلاح الديمقراطي، لا ثورة دكتاتورية أخرى، فثورتان في جيل واحد شيء كبير».

وقد كان رفيق درب الفيلسوف سوروش، الكاتب الإسلامي الإيراني أكبر غانجي، الذي كان قريبا من الإمام الخميني، وقد عمل في بداية الثورة عضوا في الحرس الثوري، ثم انتقل لوزارة الثقافة، ولتؤدي صراعات بعض رجال الدين على السلطة إلى خذلانه من الأوضاع التي عانتها الثورة. ويعلق على ذلك بقوله: «كنا نرغب حالمين في خلق الجنة، وكنا لا نريد الشاه، ولكن لم يكن واضحا ما نريده، فكلما زدنا في القمع والإعدام، أصبحت الثورة كالأم التي تبتلع أطفالها. وحينما بدأت أشاهد الواقع غير القابل للتصديق، توجهت لدراسة الثورات عبر التاريخ، فوجدت أنها جميعا متشابهة، وتتبع قانونا فريدا، هو الانحراف عن مسارها، لتتحول من ثورة الجماهير، لثورة ضد الجماهير ولمصلحة الأقلية. واكتشفت أيضا أن القمع هو جوهر الثورات، وأدركت أنه لا يمكن تحقيق الديمقراطية بالثورة».

وقد اشتدت الخلافات بين بعض رجال الدين في الصراع على السلطة، لتمتد إلى قيادتها العليا، ولتنقسم أخيرا لمجموعة المحافظين التي سيطرت على السلطة، وليبقى الفريق الإصلاحي خارج الحكومة. ويعبر عن أفكار الفريق الإصلاحي الرئيس السابق محمد خاتمي الذي كرر قوله إن: «المجتمع الإيراني مجتمع ديني، وقد حاولت في تجربتي الضغط لفهم قراءة الدين بحيث يساعدنا على تحقيق الاستقلالية والحرية والتنمية، ولو استطعنا تفسير الدين بطريقة تتوافق مع الديمقراطية سيستفيد الاثنان: الديمقراطية والدين، ولو نظرنا للدين والديمقراطية كمتضادين لبعضهما بعضا، فالاثنان سيعانيان مدة طويلة. ومن دون شك سننجح في التقدم للأمام فقط، حينما تكون لدينا القدرة على الاستفادة من الإيجابيات العلمية والاجتماعية التي حققتها الحضارة الغربية. كما أن الليبرالية هي دين العالم، وليس من حقنا اهانتها».

والشخصية الأخرى البارزة ضمن هذا الفريق هو الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني والمشهور باعتداله وببراجماتيته وبحذره التدريجي في التغيير، وتوضح أفكاره مقولته: «إنني حقا أومن بالديمقراطية، ولكن علينا تطبيقها خطوة بخطوة». والطرف الآخر في السلطة الإيرانية هو فريق المحافظين، الذي يعبر عن أفكاره معلم الرئيس المخلص: آية الله محمد مصباح يزدي، الذي يوضح فلسفته عن توافق الدين مع الديمقراطية في مقولته المشهورة: «كن حذرا، ولا تدعهم أن يخدعوك، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتوافقا في التشريع: الإسلام والديمقراطية». ويبدو أن الشعب الإيراني وباقي شعوب الشرق الأوسط سيواجهون سؤالا محيرا: هل ممكن أن تتخلص منطقة الشرق الأوسط من صراعاتها المزمنة وتتفرغ لتحقيق تنميتها الروحية والاجتماعية والاقتصادية، من دون إيجاد التناغم بين الديمقراطية والدين، ومن دون فتح باب الاجتهاد لإثراء النصوص الدينية بالاكتشافات العلمية في خلق الخالق جل شأنه، في عالم ما بعد الحداثة وعصر اللامعقول وزمن ثورة تكنولوجية الميكروشبس؟

* سفير مملكة البحرين في اليابان



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة