مصر تدخل مرحلة جديدة
 تاريخ النشر : الأحد ٢٩ يناير ٢٠١٢
بقلم: معن بشور
لم يفاجأ المتواصلون مع نبض الشعب المصري، والمتضامنون مع مناضليه ومثقفيه وشبابه عبر السنوات الماضية، بثورة ٢٥ يناير المصرية، فقد كان هؤلاء يشعرون بأن مصر حبلى بتغير كبير إذ ان شعبها لم يعد قادراً على تحمل حال الفساد والاستبداد والتبعية المفروضة عليه، وإن قواتها المسلحة لم تعد قادرة على السكوت عمّا يهدّد أمن مصر القومي، سواء من الشرق حيث العدو الصهيوني وممارساته، ولاسيّما في غزّة، الجسر التاريخي بين مصر وفلسطين، أو من الجنوب حيث منابع النيل، هبة الله لأرض الكنانة، مهددة بأكثر من خطر، وحيث السودان، توأم مصر التاريخي، مهدد بالتقسيم المرشح إلى الانتقال من قطر إلى آخر، أو من الداخل المصري حيث الفتنة الطائفية تذر بقرونها وتشجعها أجهزة نظام رأى فيها طوق نجاة من الانهيار المحتم عبر صرف الأنظار عن عوامل معاناة الشعب المصري.
أما من الغرب فقد هبّت رياح الثورة التونسية لتسقط أعتى الديكتاتوريات، وبات واضحاً أن محمد بوعزيزي لم يحرق جسده فحسب، بل أحرق خوفا جماعيا كان يكبل جماهير الأمة من قمع أنظمة قوية على شعوبها، خانعة أمام الأجنبي.
ولم يدُر بخلدي لحظة، كما يعلم الكثيرون، أن ثورة ٢٥ يناير لن تنجح في إسقاط مبارك، وكتبت يومها في معرض الرد على المشككين في نجاحها، أو الذين اتخذوا دور «الأستذة» على شبابها قائلاً: «نداء ميدان التحرير: ثورتنا بخير.. طمنونا عنكم».
وبعد انتصار الثورة، حذرنا من المبالغة في استعجال التوقعات منها، ثم في محاسبتها في ضوء هذه التوقعات والآمال، لا في ضوء الواقع الفعلي وظروفه، فلا ننتقل من أمل كاذب إلى بأس غير مبرر، وشدّدنا على أن هذه الثورة هي ثمرة تلاقي تيارات فكرية وسياسية متنوعة، وتفاعل جهود أجيال متعددة، مما يحتم الحرص على هذين التلاقي والتفاعل، وإبقاء أي اختلاف في الاجتهاد او تباين في الموقف تحت سقف هذين التلاقي والتفاعل الايجابي.
واليوم، وبعد عام على انطلاق ثورة ٢٥ يناير في مصر وفي جردة حساب لإنجازات حققتها، وإخفاقات وقعت بها، نستطيع أن نقول إن عظمة هذه الثورة تكمن في أربع سمات:
أولاها: إنها ثورة مصرية، بكل ما تعنيه مصر في الوجدان العربي والإسلامي، وما تمثله في الجغرافيا السياسية، والإقليمية والعالمية، التي تحدّث يوماً عن دوائرها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
ثانيتها: إنها ثورة شعبية، لأنها انطلقت من رحم الشعب المصري، ومن قلب أوجاعه ومعاناته، ولأنها اعتمدت، ولاتزال، أساساً على الشعب المصري الذي أثبت أنه مع جيشه، رغم كل المظاهر المعاكسة، «يد واحدة»، كما قال ثوار يناير منذ اللحظات الأولى وهم يواجهون المحاولات المبكّرة لقمعها، لتلبي حينها قواتهم المسلحة النداء.
ثالثة هذه السمات: إنها ثورة تعرف كيف تصحح مسارها ومسيرتها من خلال حضور أبنائها الدائم في الميادين، ووضوح أهدافها، ومرحلية مطالبها، بل من خلال إدراك كل القوى الفاعلة فيها، شعبية وعسكرية، أن لا مجال في هذه الثورة ان يتسلط احد على آخر، فلا سلطة «العسكر» قادرة، ولا صناديق الاقتراع تبرر إقصاء أو استبعاد أو إبعاد أي فئة من فئات الشعب.
ورابعة السمات: إنها ثورة ناضجة تجمع بين حكمة مصر العريقة في تاريخها، وأصالة الشعب المصري المحصّنة ضد الارتجال والانفعال والاستعجال، وآليات التصحيح الديمقراطية القادرة على تنظيم العلاقات بين مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية المتنوعة.
وهذه السمات الأربع كفيلة بأن تحدد المسار الأسلم لهذه الثورة، فلا تستسلم لتهويل المفرطين الذين يريدون تحويل الظروف الصعبة التي تمر بها مصر إلى قدر لا فكاك منه، كما لا تخضع بالمقابل لمزايدة المزايدين «وعصابيتهم» التي - عن حسن نيّة أحياناً كثيرة - تربك مسيرة الثورة.
لقد فاجأت ثورة مصر، وقبلها ثورة تونس، الكثيرين ولاسيّما أعداء أمتنا الذين كانوا مطمئنين إلى متانة وضع «كنزهم الاستراتيجي» في مصر وحليفهم الحاكم باسم مركب أمني - كومبرادوري في تونس، فعمدوا إلى محاولات إجهاضها، وسعوا إلى سبل تجويفها، وإغراقها بالأموال والوعود، والإيقاع بين مكوناتها بألف وسيلة ووسيلة، أما من الخارج فسعوا إلى تطويقها بإشعال النيران من حولها، وبإذكاء الحروب والفتن في محيطها، وبشكل خاص بالحيلولة دون قيام معادلة استراتيجية جديدة تضم دول الطوق العربية للكيان الصهيوني بعد أكثر من ٣٥ عاماً من كسر الحلقة المصرية الكبرى والأكثر أهمية في هذا الطوق.
من حقنا أن نفرح ونحن نرى ثورة مصر تنير في ميدان التحرير شعلة عامها الأول، فيتجدد اشتعالها وتوجهها وتمسكها بمطالبها، ولكن من واجبنا أن نحصّن فرحنا بالحذر مما يحاك لهذه الثورة، ولكل التحولات المذهلة الجارية حولها.
ولعلّ أفضل ما نفعله في هذا الإطار هو أن نقرأ تجربة ثورات أوروبا عام ١٨٤٨، كيف بدأت، وكيف انتكست، ولكن روحها بقيت مشتعلة في قلب بلدانها تحقق لو بعد حين الوحدة في بعضها، وتنجز مهامها الليبرالية في بعضها الآخر، والاشتراكية في أقصاها الشرقي.
ألم يكن عام ١٨٤٨ الأوروبي، عام الثورات، هو نفسه عام صدور «البيان الشيوعي» لماركس ورفيقه انجلز أيضاً، وعام بدء المسيرة الوحدوية في ألمانيا وإيطاليا، وعام الشروع بإقامة الجمهورية البرلمانية في فرنسا وفي غيرها من دول اوروبا؟
.