لماذا عمر بن عبدالعزيز.. خامس الخلفاء الراشدين؟
 تاريخ النشر : الأحد ٢٩ يناير ٢٠١٢
بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح
سؤال جاء في إثر السؤالين اللذين طرحتهما وأجبت عنهما: لماذا أبوبكر أولا، ولماذا عمر ثانيا؟ ولا أرى مانعاً من طرح مثل هذه الأسئلة سعيا وراء الحقيقة واستئناساً بها واحتفاءً بما تغدقه علينا من عطاء معرفي غير مجذوذ.
عمر بن عبدالعزيز كان الرؤيا العمرية التي جاءت كفلق الصبح تحمل معها البشارات بعهد عمري جديد لا نقول في سنوات تعوض الفارق بين زمن الخلافة الراشدة في قمة عطائها، ولا نقول في الزمن نفسه الذي عاشه الفاروق، ولا حتى بنصفه بل هو سنتان وخمسة أشهر فقط لا غير.. يا الله! إنها فترة زمنية لا تكفي للشروع في بناء بيت صغير فما بالكم بدولة تعيد أمجاد الخلافة الإسلامية في أزهى عصورها؟
وهل يستطيع ابن عبدالعزيز أن يفعل ذلك في زمن تغير فيه الناس ولم يظلوا على عهدهم الأول؟ صحيح أن الأمر ليس سهلاً، ولكنه أيضاً ليس مستحيلاً إذا صحت العزائم، وصدقت النيات.
وكانت البداية المباركة حين طلب ابن عبدالعزيز إلى أخواله أن يأتوا إليه بأقضية جده الفاروق عمر رضي الله عنه ليجعلها منهاجاً يسير عليه، ويترسم خطى جده الفاروق، وكان له ما أراد وكانت تلك هي البداية الموفقة لذلك العهد المبارك الذي استقبله التاريخ بحفاوة بالغة، وبفرح غامر، وتهلل وجه التاريخ بشراً وهو يسجل تلك اللحظة الخالدة من عمر الزمن ليقول في ثقة ان الإنسان يستطيع إذا أخلص وتجرد أن يفعل المعجزات، ولقد استطاع ابن عبدالعزيز أن يحقق في سنتين وخمسة أشهر ما عجز الملوك والسلاطين أن يحققوه في عشرات السنين.
وكان له موقف من الشعراء الذين اعتادوا أن يكيلوا للخلفاء المديح لينالوا على ذلك الأعطيات فيغتر هؤلاء بالمديح وينشغلون بذلك عن الاهتمام بشؤون الرعية،فما كان من ابن عبدالعزيز إلا أن طردهم من بابه وقرب إليه العلماء يستنير برأيهم، ويستزيد من علمهم، واشتهر عن ابن عبدالعزيز أنه يقرب العلماء ويبعد الشعراء، وهذا ما أعلنه الشاعر جرير عندما دخل على ابن عبدالعزيز، فما وجد عنده ما اعتاد أن يجده عند غيره من الخلفاء، فقال للشعراء الواقفين بباب ابن عبدالعزيز: لا مقام لكم أنتم بباب أمير يقرب العلماء ويبعد الشعراء .
وطوى التاريخ صفحة الشعراء في عهد ابن عبدالعزيز وفتح صفحة العلماء لينتشر في عهد ابن عبدالعزيز تنافس الناس على حفظ القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا في عهد من سبقه من الخلفاء يتنافسون على شراء المغنيات وحفظ الشعر والتنافس على امتلاك القصور والحدائق، وانشغلوا بكل ذلك عن شؤون الرعية.
لقد نظم عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه الدخول عليه ووضع دستوراً ألزم الناس به، وفيه منع الغيبة في مجلسه، وطلب إلى من يغشون مجلسه أن ينقلوا إليه حاجة من لا يستطيع رفعها بنفسه إليه، وكانت الخطوة الأولى التي اتخذها أنه بدأ بنفسه فتنازل عن كل ما يملك ورده إلى بيت مال المسلمين، ثم قال لزوجه فاطمة بنت عبدالملك: أنا وما لديك من مال لا نجتمع إما أنا وإما أموالك، قالت: لا أختار عليك شيئا، فردت هي الأخرى ما كانت تملكه إلى بيت مال المسلمين، ثم بدأ محاسبة الأمراء ورد معظم ما يملكون إلى بيت مال المسلمين، ثم أخذ ينشر العدل والمساواة بين الرعية، ويضرب بيد من حديد على أيدي ولاته الذين يخالفون منهج الله تعالى، ويظلمون الرعية، فانتشر الأمن بين الناس، واستعادوا أيام الخلافة الراشدة لأن ابن عبدالعزيز غصن رطب من دوحة الفاروق المعطاء.
ومن عدله ما حدث لأهل سمرقند حين فتحها المسلمون عنوة من دون أن يعرضوا عليهم الشروط الثلاثة التي تسبق الحرب،فشكا أهلها إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز ما فعله قائده فأرسل مع وفدهم قاضياً يفصل في القضية فحكم القاضي لصالح أهل سمرقند وأمر القائد (المنتصر) بمغادرة المدينة، وعرض الشروط الثلاثة عليهم كما تقضي بذلك شريعة الإسلام، فما كان منهم إلا أن رضوا بالفتح الإسلامي وأقروا المسلمين على وجودهم في المدينة،وتلك صفحة مضيئة من صفحات ابن عبدالعزيز الناصعة.
وقصة فرتونة المصرية التي أرسلت إلى عمر تشكو إليه تعرض دجاجاتها للأكل بواسطة الذئاب فأرسل إلى عامله في مصر أن يركب إليها وأن يشرف على بناء جدارها ليمنع الذئاب من تسلق جدارها والسطو على دجاجاتها.
حاكم ينشغل بمثل هذه القضية التي قد تبدو تافهة ولا قيمة لها في نظر البعض ولكنها عند ابن عبدالعزيز تستحق أن يرسل إلى عامله ويعزم عليه أن يشرف على بناء الجدار بنفسه ولا ينيب أحدا غيره، وفي عهد عمر بن عبدالعزيز بلغت المحافظة على أموال المسلمين حدا جعل عمال الزكاة يطوفون بها على الناس فلا يجدون من يأخذها إما استغناءً وإما تعففاً فوجهها الخليفة الصالح إلى جهات أخرى فأعطى أهل الكتاب من النصارى واليهود ومن في حكمهم، فعاش الناس في عهده حياة رغيدة، وشعروا بالأمان الاجتماعي والاقتصادي والصحي، وحقق ابن عبدالعزيز في عهده الزاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
هذه الصفحات المضيئة من تاريخ إسلامنا العظيم هناك من يريد طمس معالمها، ومسخ صورتها المشرقة إما حقدا وإما عمالة لأعداء الإسلام الذين يعملون ليلاً ونهاراً من أجل طمس حقائق الإسلام وتشويه نقائه. ويكفي عمر بن عبدالعزيز فخرا أنه استطاع في سنتين وخمسة أشهر أن يعيد للخلافة الإسلامية اعتبارها، وأن يزيل ما علق بوجهها الناصع من شوائب بفعل إساءات بعض الحكام الذين انحرفوا عن منهج الله تعالى ويمموا وجوههم شطر الغرب والشرق في شعور بالمهانة والذلة فهم مغرمون بكل ما هو قادم من الخارج بصرف النظر عن صلاحيته وملاءمته لديننا ولتقاليدنا ولأخلاقنا، أو عدم ملاءمته لنا.
وقد يسأل سائل: لماذا تقدم المسلمون في تلك العصور المشرقة وتخلفوا في عصرنا الحاضر؟
والجواب: انهم كان انفتاحهم على تلك الحضارات في تلك العصور من واقع كونهم أساتذة لديهم ما هو أفضل مما لدى غيرهم ولكنهم لا يجدون أدنى غضاضة في أن يستفيدوا مما عند غيرهم إن كان صالحاً ويضيف إلى ما عندهم، ولذلك كانوا يختارون الصالح وينبذون الطالح، وكانت لهم شخصيتهم المتميزة عن غيرهم، ذلك لأنهم أمة وصفها مولاها بأجمل الصفات وأجلها حين قال عنها: «كنتم خير أمة أخرجت للناس» آل عمران/١١٠، وقال عنها أيضاً: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» البقرة/.١٤٣
واستئناسا بهذين النصين المباركين نستطيع أن نقول: ان هذه المكانة العظيمة التي جعلها الله تعالى لأمة الإسلام جعلتها تنفتح على من حولها وفق ضوابط وأسس لا تحيد عنها هي التي بوأتها هذه المنزلة الرفيعة بين الأمم، وصارت بحق هي أمة البلاغ وأمة الشهادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة، فيقول : لبيك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدا، فذلك قوله عز وجل: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» البقرة/.١٤٣
وهكذا حقق الله تعالى لأمة الإسلام ما وعدها به بأن تكون أمة البلاغ وأمة الشهادة، وأن تكون الأمة التي آلت إليها مواريث الأنبياء منذ آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام، وحري بأمة هذا شأنها وهذه مكانتها أن تقود ركب البشرية إلى صراط ربها المستقيم.
وقد يثور سؤال: لماذا لم يستطع أحد محاسبة عمر بن عبدالعزيز؟ هل لأن ابن عبدالعزيز فوق المساءلة وأنه فوق القانون، أم لأنه لم يترك شيئاً يحاسب عليه، لأنه حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس؟
لا شك أن سبب عدم محاسبة الناس لابن عبدالعزيز راجع إلى أنه تولى بنفسه محاسبة نفسه ومحاسبة من لهم صلة به من قريب أو بعيد لأنه عمل بمقتضى قوله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» الرعد/.١١ كما أنه اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». وقال عن نفسه في مرض وفاته: أيها الناس من جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليجلده، ومن شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليشتمه، ومن أخذت له مالا، فهذا مالي فليأخذ منه، ثم قال: لا تقولوا الفضوح.. الفضوح، فإن فضوح الآخرة أشد من فضوح الدنيا، واقتدى بالصديق الذي قال للناس في يوم مبايعته بالخلافة: أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، وهو أيضاً اقتدى بجده الفاروق الذي قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم. وقال أيضاً: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.
هذا هو ابن عبدالعزيز الذي دانت له الدنيا راغمة، وجاءته الخلافة راضية مختارة.
والآن.. هل ارتاحت نفوسنا لما سبق أن قررناه من اتفاق العلماء على منح عمر بن العزيز شرف الانتماء إلى عصر الخلافة الراشدة بأفعاله وأخلاقه وإن لم ينتم إليها بزمنها وعصرها؟ وأكد ابن عبدالعزيز إمكانية استدعاء عصر الخلافة الراشدة بكل جلالها وطهرها إلى عصر يموج بالقهر والظلم والاستبداد ليملأ الأرض عدلا وقسطا بعد أن ملئت ظلما واستبدادا وقد فعلها عمر بن عبدالعزيز، وقادر غيره على أن يفعلها إذا هو سار على نهجه ونهج من سبقه من خلفاء الإسلام العظام الذين سطروا في سجل الخلود أبهى صور العدل والإنصاف، وتركوا للبشرية إرثاً عظيماً باهوا به غيرهم من الأمم إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ويكون زاداً لأحفادهم ولأبنائهم من بعدهم، فرضي الله تعالى عن عمر بن عبدالعزيز الذي صار اسمه شامة في جبين الدهر، وصفحة مضيئة في سجل الخلود.
.