الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٧٠ - السبت ٤ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ١٢ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

الربيع العربي والإصلاحات التركية





يبدو أن حراك الإسلام السياسي سيكون له دور مهم في التطورات المستقبلية لإرهاصات ثورات ما يسمى الربيع العربي، وعلى قياداتها مسئولية القرار في اختيار نموذج لنظام حكم معاصر، يحقق لشعوب بلادها التنمية الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وهي أمام نموذجين للاستفادة منهما لتطوير تجربتها العربية، هما النموذج الثوري الإيراني، والنموذج الإصلاحي التركي. وقد درسنا سابقا مع عزيزي القارئ تجربة الثورة الإيرانية، وسنحاول معا مراجعة هادئة، غير انفعالية، حكيمة، وبموضوعية متجردة، وبمقياس تقييم أكاديمي علمي، غير ديني، ولا طائفي، لكي نناقش تجربة تاريخ معاصر، غير مرتبطة مباشرة بأمور العبادة الدينية، بل مرتبطة بتحقيق نجاح دنيوي في أمور حياتية سياسية واقتصادية وإدارية، وهي تجربة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التركية.

منذ أن تحررت دول الشرق الأوسط من الاستعمار العسكري، تحاول شعوبها إيجاد طريق مستقل لتحقيق تنميتها الاجتماعية والاقتصادية والروحية. وقد طرحت الحركات السياسية، في القرن الماضي، أيديولوجيات متعددة للتغيير، كدكتاتورية الحزب الواحد بالشيوعية، والاشتراكية، والقومية، وديمقراطية الأحزاب المتعددة، بالليبرالية الرأسمالية، وقد نجح بعض هذه الأحزاب في الوصول إلى الحكم بالثورات والانقلابات، لتحكم جميعها باسم الطبقة الكادحة، وبشمولية نظرية الحزب الواحد. وقد صدمت هزيمة عام ١٩٦٧ شعوب المنطقة، وأدت إلى ردة فعل عنيفة بين الشباب، لتدفعهم للبحث عن حلول جديدة لتحديات حياتهم اليومية، فلم تتأخر المعارضة في طرح «أيديولوجية» الدين السياسي هو الحل. وقد بدأت هذه الأيديولوجيا مع بدايات القرن العشرين، بتأسيس حركة الاخوان المسلمين، وقوي عودها بعد تجربة الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩، ودعمتها الإصلاحات الأخيرة في النظام التركي.

لقد حلمت تركيا على مر السنين بأن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي، ويبدو أن أحلامها بدأت تتلاشى رويدا رويدا، بعد أن اكتشفت دورها القيادي في منطقة الشرق الأوسط، كدولة آسيوية-أوروبية اسلامية مهمة استراتيجيا للولايات المتحدة. فالإدارة الأمريكية مهتمة ببقائها في حلف الناتو، وبأن تكون عضوا بارزا في الاتحاد الأوروبي، بينما يريدها الغرب الأوروبي أن تكون مثلا للدول الإسلامية المعتدلة، ليؤكد أن النظم الديمقراطية العلمانية في الدول الإسلامية يمكن أن تكون ناجحة، كما أن جسور العمل المشترك بين الدول الإسلامية والغرب قد تكون مفيدة ومنتجة لنقل التطور التكنولوجي والعلوم المتقدمة الغربية. وقد كان نجاح نيكولا ساركوزي للرئاسة الفرنسية عائقا اضافيا للأحلام التركية والأمريكية، كما كان الخلاف حول اختيار عبدالله جول رئيسا لتركيا، حجر عثرة جديدة للمشاركة الأوروبية.

لقد حلل الكاتب بيتر بيمونت في جريدة اليابان تايمز، بتاريخ الحادي عشر من مايو ٢٠٠٧، أسلمة التجربة التركية فكتب يقول: «سيصوت الشعب التركي للانتخابات المعلنة لنزع فتيل الأزمة السياسية والدستورية، التي كادت أن تربك الدولة التركية، وقد يكون الخلاف حول حجاب الرأس والمرأة التركية المعاصرة.. والحقيقة أن المواجهة خلال الأسابيع الماضية حول تعيين عبدالله جول يلمس خيوطا معيبة عميقة اجتماعية وسياسية.. والخلاف هو صراع على السلطة السياسية، وهو صراع طبقي، بقدر ما هو عن الإسلام. وقد نتفهم هذه المواجهة بملاحظة الضواحي المتزايدة حول اسطنبول خلال الأربعين سنة الماضية، فقد توجه القرويون إلى المدينة ليقطنوا في العمارات الكبيرة، وفي هذه العمارات تعيش تركيا الجديدة والقديمة في منافسة شديدة، والممثلة للدائرة الانتخابية الجديدة لحزب العدالة والتنمية الإسلامي، المعروف ببرنامجه النشط للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وجذب الاستثمارات الأجنبية.. ويشكك إحسان داغي الصحفي بجريدة زمان التركية، في أن تركيا متجهة نحو التطرف الإسلامي، بل يعتقد أن القضية الأساسية هي ظهور طبقات جديدة كانت بعيدة سابقا عن الحياة الاقتصادية والسياسية، التي بدأت تهدد مصالح النخبة المعروفة بارتباطها بالمثاليات العلمانية.. وقد أصبحت المجموعات الإسلامية جزءا من النسيج التركي السياسي والاجتماعي المعاصر، ويحاول من هو في السلطة من العلمانيين إقصاءهم بقوة، حتى ظاهرة حجاب الرأس، هي مؤشر على أن المرأة التركية، من الفئات الفقيرة، بدأت تأخذ مواقع اجتماعية وسياسية بارزة، ومن الضروري أن يعتبر ذلك انتصارا للجمهورية».

وقد أكد الاستفتاء الشعبي الذي أجراه مركز الأبحاث «تيسيف» هذه الحقائق، فقد كشف عن أن ٢٢% من العينة تتصور ان العلمانية في خطر بتركيا، ٨ فقط منها أبدت تفضيلها لدولة إسلامية. كما وضحت الدراسة أنه كلما كان الشخص متعلما وثريا زاد تخوفه على خطورة الوضع على العلمانية التركية. وأكدت الدكتورة نلوفر نارلي أن الموضوع اكبر من قضية حجاب الرأس، بل تعتبر هذه التغيرات إرهاصات اجتماعية بقدر ما هي دينية. وتؤكد الإحصائيات أن هناك زيادة كبيرة في الطبقات الفقيرة والمتوسطة في تركيا، كما بدأ تحرك عدد كبير من أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة مع عائلاتهم، المحافظة والمتدينة، نحو المدينة، وقد استفادت هذه الفئات من النمو الاقتصادي المستمر بسرعة. وقد لاحظت نارلي التغيرات في العادات الاجتماعية للنساء المتدينات، فقد كانت نساء القرى الفقيرة يرتدين المعطف الطويل الذي يغطي جميع أجزاء الجسم، بينما تلاحظ الآن أن هؤلاء النسوة يلبسن موضات مختلفة وضيقة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل «تأسلم» المجتمع التركي؟ أم أن تطور الوضع الاقتصادي للعائلات المسلمة الفقيرة أدى إلى بروزها، لتأخذ مواقعها الاجتماعية والسياسية في المجتمع، وتتأثر بالحداثة؟

ونلاحظ أيضا أن هناك صراعا سياسيا اقتصاديا في مجتمعاتنا العربية بما يتعلق بالحركات السياسية والإسلام والحداثة، فقد أخذت تتقدم الفئات الفقيرة في مواقعها الاجتماعية والاقتصادية، بعد أن أصبحت متعلمة ومتخصصة، وبعد العيش سنوات طويلة في المجتمعات القروية، بعاداتها الاجتماعية، والتزاماتها الدينية. ومع تطور المجتمعات والتوسع في المدن، بدأت هجرة هذه القوى البشرية الفقيرة نحو المدن المتطورة اجتماعيا وتكنولوجيا، ليؤدي ذلك إلى توسيع مداركها ورفع مستوى تفكيرها وثقافاتها، فقد خرجت هذه الفئات من عزلة القرى، وبدأت تتفهم السياسة والمفارقات الطبقية الحادة في مجتمعاتها. كما بدأ بعض الحركات السياسية الدينية يرتبط بواقع هذه الفئات الديني والاجتماعي، بعد أن اهتمت بالأعمال الخيرية، وأخذت تتكلم وتفكر بطريقتهم نفسها، بل تتعايش معهم. ومن المعروف أن الكثير من هذه الفئات من الطبقة البسيطة، ذوي الدخل المحدود، وتواجه ضغوطا حياتية صعبة، ومع التطور الديمقراطي بدأت تلعب دورا، بجماهيرها الغفيرة.

ولنقارن عزيزي القارئ التجربة التركية بتاريخ التجربة اليابانية، فقد تستفيد منها الحركات السياسية العربية، لتعمل بإنتاجية لتطوير اقتصاد بلادها والواقع الاجتماعي، ولتبتعد عن أخطاء الصراعات الأيديولوجية التي عاناها الغرب، حينما توجه بالدين نحو العمل السياسي، فقد عانت اليابان عبر العصور تداخل الدين والسياسة مما أدى إلى مجابهات عنيفة، وحروب عديدة بين رجال السياسة، ورهبان المعابد البوذية، والكنائس المسيحية. وبعد الحرب العالمية الثانية فصل الدستور الياباني الدين عن الدولة، وتوجهت البلاد نحو البناء والتصنيع.

وفي عام ١٩٥٦، نجح في الانتخابات البرلمانية ثلاثة من رجال المؤسسة الدينية البوذية المسماة، سوكا جاككي، وشكل هؤلاء الثلاثة حزب الكوميتو في عام .١٩٦٤ وقد نجح هذا الحزب في انتخابات عام ١٩٦٧ بشكل لافت للنظر، حيث حصل على خمسة وعشرين مقعدا في البرلمان، وأصبح بين ليلة وضحاها ثالث أكبر حزب في اليابان، ليتحالف مع الحزب الشيوعي الياباني عام ١٩٧٥ ويشكل حلف سوكوي. وقد حل هذا الحزب عام ١٩٩٤، وامتصت جماعته ضمن حزب شنشنتو. وفي عام ١٩٩٨ نشط حزب كوميتو من جديد، ودخل في عام ١٩٩٩ الحكومة وتحالف مع الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في ذلك الوقت، وقد عمل هذا الحزب الديني بحكمة، وحافظ على مواقعه في البرلمان والحكومة حتى اليوم، وقد فصل هذا الحزب ارتباطه بمؤسسته الدينية البوذية: سوكا جاككي، القوية، ليفصل العمل السياسي عن المؤسسة الدينية، فعمل بذكاء بالتزامه الدستور الياباني، الذي يمنع الخلط بين الدين والسياسة، فأعطى قيادته السياسية المجال للمناورة السياسية الذكية، وجنب مؤسسته الدينية الانتقاد والمحاسبة السياسية.

وقد يمثل تطور التجربة السياسية الدينية التركية المعاصرة حزب العدالة والتنمية بعد أن فصل النظام التركي في عام ١٩٢٣ الدين عن السياسة، حينما أصبح كمال اتاتورك رئيسا للجمهورية العلمانية الجديدة، ووقف الجيش التركي بالمرصاد لأي تدخل ديني في السياسة. كما نص دستور عام ١٩٨٢، في مادته رقم ٢٤، بأن مسألة العبادة مسألة شخصية فردية، لتبقى الجماعات والمنظمات الدينية محرومة من التمتع بأي مزايا دستورية. وحينما حكم تركيا الزعيم الإسلامي الهوية: تورجوت أوزال، من عام ١٩٨٣ حتى عام ١٩٩٣، اقتنع بأن نموذج أتاتورك في نظام الحكم قد انتهى عمره الافتراضي. وحينما جاء بعده للحكم نجم الدين أربكان، بهويته الإسلامية أيضا، حاول أن يجري بعض التغييرات في المجالين الداخلي والخارجي، فلم ينجح، ليجبر على الاستقالة بعد سنة واحدة من حكمه.

وقد برزت الحركة الإسلامية التركية من خلال حزب العدالة والتنمية، عندما استقال المجددون الإسلاميون المعاصرون من حزب الفضيلة في عام ٢٠٠١، ورفعوا شعار الاعتدال في السياسة، والفكر، والسلوك، واتجهوا لخدمة الشعب اقتصاديا واجتماعيا، بعيدا عن الفساد، وتصرفوا بحكمة لتجنب المجابهات والصراعات الايديولوجية، وتعلموا فلسفة الهدوء أمام العواصف، والعمل في صمت، والتركيز في الأولويات، فابتعدوا عن الاستفادة من إثارة عواطف الجماهير الدينية، كما امنوا بصدق بالديمقراطية، فعملوا بتناغم ضمن أسس الشفافية والحوار والتعاون، للتعامل مع الفقر والجهل والبطالة. كما ابتعدوا عن مواجهة المشكلات المتعلقة بالبناء الفوقي للمجتمع، وأكدوا المصالحة الاجتماعية والحوار والتعاون والابتعاد عن العنف والمجابهة.

وقد وصف الدكتور عبدالله التركماني فلسفة حزب العدالة بقوله: «هي أطروحة فكرية سياسية لإسلام سياسي حديث، متولدة عن حراك اجتماعي عميق، وجدل ثقافي متفاعل ما بين التراث والحداثة.. ويعلن التزامه الكامل بالعلمانية، ويفصل الدين عن السياسة، وذلك لا يعني فصل الدين عن المجتمع أو الدولة، فالخلط بين الدين والسياسة يضيرهما معا، فالمبدأ الديني محصن بطبيعته من أي تغير، أما السياسة فتتغير باستمرار استجابة للواقع.. فعلمانيتهم غير معادية للدين، ولكن أيضا هي علمانية مؤمنة، تقر بأهمية القيم الدينية في تحقيق الرقي الاجتماعي. كما أن علمانيتهم لا تتنكر للهوية الإسلامية للمجتمع التركي، وهي تندرج ضمن مقاربات تهدف إلى إعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة، بعيدا عن كل أشكال التنازع أو التوظيف، ويعطون أهمية للسلوك الأخلاقي الإسلامي، ويشجعون التدين، من دون أن يحصروا وظيفتهم داخل هذا الإطار.. ويطرحون ديمقراطية علمانية لا تعادي الدين بل تستوعبه.. حيث أعلنوا التزامهم الكلي بقواعد التعددية السياسية.. وأعلنوا عزمهم على حماية حقوق الإنسان، وعدم التدخل في الحياة الخاصة للمواطنين، أو التعسف بتغيير نمط حياتهم عن طريق سلطة دولة.. وبذلك أثبتوا أنهم حركة إسلامية ناضجة، قادرة على التعامل العاقل مع القوى والتجمعات الحديثة، والمشكلات المركبة القومية والإقليمية والعالمية.. وانها قادرة على عقد الصفقات المفيدة للجميع، كما أنها قادرة على قيادة شعبها قيادة حكيمة من دون تطرف.. وفي اتجاه الانضمام الايجابي الفعال إلى المجتمع الدولي».

ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستراجع الحركات السياسية الدينية الشرق أوسطية تاريخها، وفلسفة عملها، وبرامجها، وأسلوب تعاملها مع الحداثة، والعلمانية، والتحديات المستقبلية: الوطنية والإقليمية والعالمية؟ وهل ستتدارس التجربة التركية المعاصرة، وتحاول تجنب أخطائها، والاستفادة من ايجابياتها؟ ولنا لقاء.

* سفير مملكة البحرين باليابان



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة