المثقف العضوي من جرامشي إلى فاتسلاف هافل
 تاريخ النشر : الاثنين ٦ فبراير ٢٠١٢
بقلم: عبدالرحمن أحمد عثمان
ان مهمة الأديب أو المسرحي أو الشاعر الملتزم لا يمكن أن تكون بمعزل عن مهمة المناضل.. لكون ابداعات وأهداف هذه النتاجات الأدبية المتمثلة في القصة او الرواية او المسرح او الشعر تنصهر في بوتقة النضال الوطني والسياسي والمبدئي.. ولطالما هذا الأديب او المسرحي او الشاعر الملتزم، قد اختلف بأدب واقعي عن العدميين والمغتربين والتبريريين والميكانيكيين بمختلف مدارسهم الأدبية المثالية التي فصلت الأضداد عن بعضها بعضا، فصلا ميكانيكيا، وفصلت الادب والفن عن السياسة والدور النضالي بمفهوم احادي الجانب بشعارها المثالي «الأدب للأدب والفن للفن».
إن هذا الأديب او المسرحي او الشاعر الملتزم، قد تجلى بمفهوم «المثقف العضوي» العصري»، الذي آمن بديالكتيك الفكرة الجدلية المعاصرة وإزاء الانتماء الفكري والأيديولوجي والجماهيري والمبدئي.. عبر نضالات هذا «المثقف العضوي» بمختلف بيئات ومؤسسات المجتمع، وفي اوساط فئاته، وداخل طبقاته.. ذلك من اجل انعتاق هذا المجتمع من الاستبداد السياسي ومهانة الاستعباد البشري والطبقي والظلم الاجتماعي، وفي سبيل النهوض بالشعب نحو الحريات العامة التي ينشدها، والى تحقيق الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الانسان التي يتوق اليها المواطنون.
ان هذه المقدمة الموجزة سببها رغبتنا التطرق الى الفكر الماركسي الحداثي والديمقراطي الذي تبناه الرئيس التشيكي السابق «فاتسلاف هافل» الذي رحل في شهر ديسمبر من العام الماضي ٢٠١١م.
«فاتسلاف هافل» كان رئيسا لتشيكوسلوفاكيا، ما بين عامي ١٩٨٩ و١٩٩٢ ورئيسا لجمهورية التشيك بين عامي ١٩٩٣ و.٢٠٠٣
ان هذا الزعيم التشيكي الراحل «فاتسلاف هافل» قد اختلف موقفه (الوطني والمبدئي) عن المواقف «الوطنية والمبدئية» لسائر زعامات اوروبا الشرقية حينذاك ابان الحرب الباردة والصراع الايديولوجي ما بين المعسكرين «الرأسمالي والاشتراكي»، وخاصة فيما يتعلق بتطبيق النظرية «الماركسية واللينينية» على صعيد «النظرية والممارسة» .. وما تمخض عما سعى اليه الرئيس التشيكي «فاتسلاف هافل» بتقديم «اطروحات حزبية تصحيحية» بصورة مفصلية.. وطرح أفكار أيديولوجية ديالكتيكية».. انتقد من خلال هذه «الاطروحات المبدئية» تلك الظواهر البيروقراطية والشمولية التي برزت على السطح في الاتحاد السوفيتي آنذاك.. وفي مقدمتها «دكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية المركزية ودكتاتورية الحزب والجمود العقدي ومركزية التخطيط».. الأمر الذي اكد فيه هذا الزعيم التشيكي، من خلال «موقفه العقدي الشجاع: انه «المثقف العضوي العصري» الذي جسد مفهومه وصياغته وحقائقه الفيلسوف الايطالي «انطونيو جرامشي» مؤسس الحزب الشيوعي الايطالي، من خلال طرح نظرية «الكتلة التاريخية» التي ترجمت بماهيتها دور العمال ودور المهنيين والاقتصاديين والمهارات الابداعية والطبقة المثقفة والطبقة الوسطى.. عبر تشكيل «شيوعية المجالس» عام ١٩٢٠م التي تطرق اليها الفيلسوف جرامشي مسترسلا بالقول «ان ديكتاتورية البروليتاريا لا تستطيع ان تعتمد بالدرجة الاولى على النقابيين ولا على الحزب بل ينبغي لها العكس ان تستند قبل كل شيء الى الاشكال والمنظمات التي يشعر فيها العامل بابداعيته من حيث هو منتج ويعي قيمته ومستقبله، انها الصورة التاريخية الجديدة لتنظيم العمال.. مجلس العمال».
انه من الأهمية بمكان القول: ان الرئيس التشيكي الراحل «فاتسلاف هافل» حسبما تجلى بشخصية مفهوم «المثقف العضوي» بفكر وأدب ملتزمين، ارتبطا بمعاناة الانسان، وقضايا الشعب، وسيادة الوطن، والصراع السياسي والطبقي، والخلاف الايديولوجي.. فانه قد آمن بمقولة المفكر الايطالي «جرامشي» حول المشاركة في اتخاذ القرار السياسي والواقعية السياسية، والعملية الانتاجية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية ضمن ارتباط البنى الفوقية بالبنى التحتية، ارتباطا متماثلا بالتوازن لما تقتضيه نظرية «الكتلة التاريخية» التي من خلال هذه المقولة يستطرد «جرامشي» موضحا: «انه الانسان الفاعل الذي يبدل البيئة، ومعنى البيئة جملة العلاقات التي تنظم حياة كل انسان بمفرده، واذا كانت فرديتنا جملة تلك العلاقات فان ابداع الشخصية يدل على اكتساب الشعور بتلك العلاقات ومعنى تبديلنا لشخصيتنا الخاصة هو تبديل مجموعة تلك العلاقات».
هكذا عاش الرئيس التشيكي الراحل «فاتسلاف هافل» حياة مليئة بالصراعات السياسية والايديولوجية، وخاض صراعات سياسية اكد فيها شجاعته بنضاله من اجل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، وواجه غمار الصراعات والخلافات الايديولوجية، بحسب نظرية «جرامشي» «الكتلة التاريخية» وطبقا لحركة «شيوعية المجالس».. فأصاب كبد الحقيقة بأطروحاته الايديولوجية التصحيحية السالفة الذكر.
وحينما ربط «فاتسلاف هافل» «الفكر الماركسي» بالحريات العامة والديمقراطية، وايمانه بالماركسية كنهج مادي جدلي قائم على مفاهيم التطوير والتحديث طبقا لـ «المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية» ضمن خط بياني تصاعدي جدلي قائم على قانون «الكم والكيف» بطفرته النوعية.. فإنه أكد في الوقت ذاته أنه «أديب ملتزم» و«سياسي واقعي وديمقراطي» و«مناضل مبدئي تحديثي وحداثي»، عبر توجيه نقده السياسي ونقده الاجتماعي ونقده الايديولوجي، بعقل نقدي وجدلي لـ «الماركسية السوفيتية» التي اتسم من خلالها «الحزب الشيوعي السوفيتي» بالجمود العقدي واتصف بمظاهر الدوغمائية والبيروقراطية وعبادة الفرد، وخاصة في عهد وحكم «ليونيد بريجنيف».
وفي ضوء مستجدات تلك الاحداث السياسية والأيديولوجية، استطاع «فاتسلاف هافل» بنضالاته، ان يسارع في نضج الظروف الموضوعية والذاتية التي كانت مهيأة اصلا.. لينجح في اطلاق ثورته الجماهيرية السلمية والمدنية القائمة على الواقعية السياسية واحترام الرأي الآخر، لاتسامها بالدفاع عن حقوق الانسان واتصافها بمفاهيم الديمقراطية والتعددية ومؤسسات المجتمع المدني، يصونها العقد الاجتماعي التعاقدي، ويكفلها الدستور، لتحيا هذه «الثورة المخملية» في وجدان الشعب، وتعيش بماهية مبدأ تداول السلطة.
في نهاية المطاف يمكن القول: إنه حينما نجح الفيلسوف الايطالي «انطونيو جرامشي» في تطوير الماركسية فلسفيا وسياسيا وطبقيا واقتصاديا وتاريخيا.. فان أفكار المسرحي والسياسي التشيكي «فاتسلاف هافل» تمثل امتدادا لفلسفة «جرامشي» بمفهوميها «الكتلة التاريخية» و«المثقف العضوي» القائمين على الثقافة السياسية والثقافة الفكرية والثقافة التراثية والثقافة الايديولوجية والمبدئية على حد سواء.
.