الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٧٢ - الاثنين ٦ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ١٤ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


عبدالرحمن الكواكبي في «الربيع العربي» (٢)





في هذه الايام والعالم العربي يتحول من عالم مستكين متخاذل الى عالم ثائر على اوضاع اتسمت بالفساد وتدهور علمي اقتصادي جعلها في مؤخرة الامم. في هذه الظروف نستذكر المفكر العربي عبدالرحمن الكواكبي الذي كتب في طبائع الاستبداد قبل مائة عام وكأنه يتحدث عن اوضاع تسود اليوم في كثير من الدول العربية. هذه الاحوال المتردية استنهضت الشعوب لتأخذ بزمام المبادرة وتتدارك ما يمكن انقاذه والبدء في عملية اصلاح سياسي يسبقه مخاض قد يطول في بعض البلدان مثل سوريا وقد يقصر في بلدان مثل تونس، لكن في النهاية ستنتصر الشعوب ويستتب الامن وتنهض الامة.

يضع مفكرنا المسئولية فيما آلت اليه الاوضاع في دول عربية كثيرة على جهتين ذكرناها في مقالات سابقة هي طبقة المتمجدين الذين يتقربون إلى السلطات بشتى الوسائل ليرتعوا في اموال الامة ويتسولوا من الحكام ما تجود به انفسهم من مال وجاه ومكانة يستغلونها في تكريس الاستعباد واشاعة الفساد. والفئة الثانية هي علماء الدين الذين يقول فيهم الكواكبي «ان الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، او في احسن الحالات اخ له، ابوهما التغللاب وامهما الرياسة غايتهما اذلال الانسان». وهنا ليس المقصود ان الدين يدعو الى الاستبداد ولكن لان الحكام يستعينون على العباد بعلماء الدين الذين يُفَصِّلون الفتاوى على هوى الحكام، كما رأينا في حالة المفتي السوري حين وقف مع استبداد وبطش بشار الاسد.

واليوم نتحدث عن ضحية مهمة من ضحايا الاستبداد وهي الترقي. فيقول ان الحركة دائبة في الخليقة صعودا وهبوطا، والترقي هو الحركة الحيوية نحو التقدم الانساني والمجتمعي في مقابل الهبوط والانحلال. والترقي هو احد قوانين ونواميس الطبيعة ما ان يكتمل امر حتى يبدأ التناقص نحو الانحلال. الامة كذلك معرضة لهذا الناموس، غير ان حركتها اشبه بالميزان لا يستقر له حال، فاذا كانت حركة افرادها نحو الترقي هي الغالبة كان مصيرها الحياة، والا آلت الى الفناء كما يحدثنا التاريخ.

يسعى الانسان نحو هذا الترقي لتحقيق ذاته في جو من العدل والحرية والمساواة، لكن يعترض طريقه نحو الترقي امران. اولهما قَدره وقُدراته الذاتية، والامر الآخر «الاستبداد الذي يُحوِّل الترقي الى الانحطاط، والتقدم الى التأخُر والنماء الى الفناء يلازم الامة كظلها». الاستبداد يحول ميل الانسان الطبيعي للترقي الى الاستكانة والشقاء بالحرية. فتنشغل الامة بصراعات من اجل الحرية والتخلص من قيود الاستبداد والاستعباد. وليس ادل على ذلك من الوضع العربي الذي استنزف طاقاته وعطل اقتصاداته وهدر ثرواته وفقد الكثير ارواحهم طلبا في الحرية.

ان حركة الانسان نحو الترقي مرتبطة بتوازن الاندفاع والمزاحمة لديه، التدافع المحكوم بالعقل. التدافع الذي يقول عنه رب العزة «وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» (البقرة/٢٥١)، فتعطيل التدافع الطبيعي بين الناس هو تعطيل لفضل الله على العالمين ويؤدي الى السكينة والى التخلف لانه يحد من طموح الانسان الفرد الذي جعله الله اداة اعمارالارض. فالشاب في امريكا يحلم بأن يكون رئيسا للولايات المتحدة، يدفعه حلمه هذا الى الترقي والى البذل والى المثابرة واكتساب المعرفة، فماذا يدفع الشاب العربي؟ يخاف ان يحلم ليكون مديرا؟ فكيف لمثل هذه العقلية ان تكون مبدعة او خلاقة وتقود نهضة؟

النتيجة ان ترك شبابنا المُتعلم ديارهم ابتغاء فرص التدافع الطبيعي المتوافر لهم في الغرب فنبغ من نبغ، واثرى من اثرى، وحكم من حكم (مثل كارلوس منعم). اما المبتلون بالاستبداد فهم مساكين لا حراك فيهم، فهم عبيد الاستبداد الذي شملهم القرآن الكريم في كفارة فك الرقاب.

يرى الكواكبي ان مهمة الساعين الى رفعة الامة العمل على ازاحة الضغط النفسي عن عقول المساكين ونشر دين القرآن وليس دين فقهاء السلطان. وان تتحمل القيادات السياسية مسئولية رفع وهم الخوف عن المساكين «المواطنين» ليعيشوا احرارا، وليساعدوهم على رفض ومقاومة انصار الفساد ويذكروهم بأنهم خلقوا لغير الصبر على الذل، ولغير انتظار الفرج. ويحث القيادات السياسية على ان يصيحوا فيهم الى متى هذا الشقاء والتأخر والناس في نعيم وتقدم؟ وان يحركوا فيهم رفض الغباوة فانها تملأ القلوب رعبا من لا شيء وخوفا من كل شيء، ورفض الضعف وعدم الثقة بالنفس ويذكرهم بأنهم اكفاء في البنية والقوة، لا يقل «احدكم عن اي انسان غير الوهم فلا انحناء الا الى الله».

ويرى الكواكبي ان الترقي في القوة يكون بالعلم والمال ليتميز على باقي انواع الترقي. لا نعتقد ان الدول العربية ينقصها المال اما القوة فهي مرتبطة بالعلم الذي تركه العرب لغيرهم. نتيجة لذلك ترقت امم اخرى كأفراد اولا ومجتمعات ثانيا ودول ثالثا فكانت لها السيطرة الطبيعية على الحكومات التابعة والمجتمعات المتخاذلة والافراد المستسلمة المستكينة للاستبداد المشؤوم فوصل بها الى حضيض الجهل والفقر. هذا يقودنا الى الحديث عن مفاهيم ثلاثة غيرت الثورات العربية التوازن والعلاقة بينها، وهي اولا: مفهوم الانسان المواطن الفرد، ثم مفهوم المجتمعات واخيرا مفهوم الدولة.

سوف نتناول هذه المفاهيم وكيف غيرتها الثورات العربية في مقال لاحق.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة