البحرين عاصمة للثقافة العربية (٣ - ٣)
أي ثقافة نريد؟
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٧ فبراير ٢٠١٢
فوزية رشيد
{ الاختلاف هو أمر طبيعي، ولكن أن يتحول الاختلاف أيا كان مصدره، وأيا كان نوعه، الى صراع من طرف واحد فتح بابه مشرعا ليجر الطرف أو الأطراف الأخرى لدخوله للمواجهة والصدام، بعد اعتماد ثقافة الاقصاء والاستبداد والعنف وثقافتي الكذب والوهم، وفرض الرأي بالقوة، فذلك ما هو غير طبيعي، لأن نتيجته هو استلاب كل ما هو انساني من الآخر وما هو فطري، واستلاب كل ما هو وطني من الوطن، واستلاب كل ما هو تطوري في الوعي وفي الأخلاق، واستبدال الثقافة التعددية المتسامحة والمتعايشة والمتآلفة والمنفتحة بثقافة الأحادية المتباغضة والمتنافرة والمتشاحنة، فكيف لوطن أن يتم بناؤه وتطويره وتنميته في كل أسسه ومرافقه ومثل هذه الأجواء الخطرة يتم فرضها فرضا على الواقع وعلى الوعي ويتم استبدال ثقافتها المعاصرة بثقافة ماضوية سوداء؟
{ لمئات بل ولآلاف السنين عاش هذا الشعب في اطار طبيعته الحقيقية الخلاقة، التي انتجت حضاراته وثقافاته وتجانس شعبه، رغم تعدد أديانه واختلاف أطيافه وطوائفه.
وعاش هذا الشعب طوال كل العصور شعبا منفتحا، قادرا على استيعاب كل ما هو معاصر لزمنه، بل على العطاء فيه من خلال تفاعله الحي والحيوي، ومن خلال حفاظه على موروثه وتراثه ولغة حضارته وثقافته وأخلاقياته العامة والخاصة، وتجليات كل ذلك في الروح الدينية الاسلامية السمحة، ليكون نموذجا فذا للتعايش وللفطرة الانسانية الودود والمتآلفة في الاختلاف، والمتوحدة في بناء ثقافة انسانية راقية تمزج في كل عصر بين طبيعتها الخاصة وسياق حضارتها الخاص بالطبيعة الانسانية الراقية أينما كانت وبالسياق الحضاري العام للشعوب كافة المتطورة والفاعلة.
{ في وسط كل ذلك البياض من السياق الحضاري والفاعلية الانسانية على الثقافات المختلفة، تخلقت الروح البحرينية بطبيعتها المنفتحة وأخلاقياتها الرائعة وثقافتها الفاعلة، بما لم يتمكن أحد قط وطوال التاريخ من ابتسار كل ذلك التراكم الرائع في التكوين البحريني، ليقتصره على ثقافة واحدة تتسم بالظلامية وليست المظلومية، وبالاستبداد وليست الديمقراطية، وبالاقصائية وليست التعددية، وبالكراهية وليست المحبة، وبالعنف وليست السلمية، وبالتحريض وليس الحوار الهادف، وكل ذلك ما يحاول تأصيله أصحاب «ثقافة الهدم» في مجتمعنا وحيث الحقيقة واضحة للعيان على ارض الواقع، وليس في بعض الخطب النظرية، ذات الاكسسوارات اللفظية البراقة، التي لم تتمكن من تجميل الوجه القبيح لأصحاب تلك الثقافة الدخيلة، سواء على مجتمعنا أو على ثقافتنا، أو على طبيعتنا الانسانية، التي عرفها كل العالم وعبر كل العصور، بأنها من ارقى الطبائع البشرية، وأن هذا البلد مميز في كل شيء ليس فقط في انسانه، وانما في حضارته وتاريخه وعطائه ورفده لكل الحضارات والثقافات التي تسعى إلى التطوير وإلى التقدم وإلى النماء.
{ وبين تكاملية الاختلاف في الثقافات ذات السياق الطبيعي، وبين السعي إلى خلق الصدام في الاختلاف، وثقافة الشحن والتحريض لمسببات خارج الطبيعة الثقافية الصحيحة، يتم دفع مجتمعنا دفعا الى التحول عن طبائعه المميزة ليدخل في نفق (ثقافة هدامة) مرفودة من الخارج
تمكن أصحابها من ضرب كل البديهيات في الاختلاف سواء الفكري أو الثقافي أو الديني المذهبي، وليتم ضرب كل أسس البناء في المجتمع تحت راية ثقافة المظلومية الملفقة، وليتم حشر مفاهيم وشعارات تريد خلخلة الطبيعة البحرينية انسانيا، وخلخلة كل ثوابت وثقافة وحضارة المجتمع البحريني، الذي وصل الى ما وصل اليه بعد عناء وكدح من ابنائه المخلصين عبر الأزمان، ليبرزوا للعالم الوجه البحريني المضيء والحضاري، ولتأتي حفنة اليوم (بثقافة ارتدادية) تنتمي الى اقسى الطبائع الاستبدادية، والثقافات العرقية الشوفينية، ولتحاول هدم كل ما بناه رجالنا ونساؤنا عبر مختلف العصور.
{ حتما التحديات ما بين ثقافة البناء وثقافة الهدم تشحذ كل المخزون التاريخي والحضاري في الانسان البحريني، ليواجه هذه الحفنة المتطرفة من البشر، والمتطبعة بطبائع غير أهل هذه الأرض، وليستميت دفاعا عن الثقافة التي نريد، والتي لا تبتعد كثيرا عن سياق ما كنا نعيشه قبل فبراير الماضي، وحيث البحريني كان يصعد بشكل ثابت سلم الحضارة والثقافة الانسانية، اللتين حافظ من خلالهما على طبائعه الانسانية الجميلة وعلى قدراته الابداعية، وعلى وهج حضارته، وعلى روعة انفتاحه، وعلى سمو تطلعاته نحو المزيد من الارتقاء، ولم تتمكن الثقافات السلبية، رغم وصولها عن بعد الى عقر داره، من تسميم أجوائه، كما فعل اليوم اصحاب «الثقافة الارتدادية الماضوية» المتسترة خلف تيار بذاته، في مذهب بعينه، مرتبط بثقافة أخرى، من ضخ السم الزعاف في شرايين هذا المجتمع.
{ نحن مع ثقافة الحياة لا ثقافة الموت المتعيشة على العنف والجثث، ومع ثقافة الانفتاح والتعددية، لا مع ثقافة الانغلاق والاقصاء، مع ثقافة البناء لا ثقافة الهدم، مع ثقافة المحبة لا ثقافة الكراهية التي يبثها الكارهون والتخريبيون، نحن مع ثقافة تكاملية الاختلاف، أيا كانت لا مع ثقافة الصراع والصدام لأسباب تاريخية ماضوية، تتسربل خلف ستار المطالب وخلف قناع الحاضر ومتطلباته، مع ثقافة الصدق لا مع ثقافة الكذب والوهم، مع أن تشق البحرين طريق اللؤلؤ الذي يربط التراث بالعصر، والتاريخ بالاستمرار في التطور، والحضارة بابراز وجه النور الكامن فيها، ويربط الابداع بالطبيعة الانسانية الخيّرة، مع ان تشق البحرين طريقها اللؤلؤي نحو المستقبل، من خلال ثقافة اعتادت الانفتاح على اجمل ما فيها من افكار، ونبذ كل ما يهدم أو يخلخل طبائعه الانسانية والأخلاقية السمحة والمستنيرة والمنفتحة.
الثقافة التي نريد هي ثقافة للحياة وليست ثقافة للموت وتتعيش على مفاهيمه، وتستل ظلاميتها منه، وتتاجر فيه، لهدم وطنا نقول بكل قوة انه وطن اوجده الله ليبقى كما كان طوال تاريخه المديد، أما غربان الساحات السوداء فليس لها الا الطيران في سماء غير سماء هذه الجزر الدلمونية ولتذهب للبقاء في اعشاشها حيث تنتمي وتوالي وتستمد طبيعتها الثقافية والفكرية منه.
.
مقالات أخرى...
- البحرين عاصمة للثقافة العربية: ٢ - ثقافة البناء وثقافة الهدم - (6 فبراير 2012)
- البحرين عاصمة للثقافة العربية: ١ـ طريق اللؤلؤ - (5 فبراير 2012)
- كفانا عبثا بالبحرين - (2 فبراير 2012)
- حتى لو أصبحنا المدينة الفاضلة - (1 فبراير 2012)
- بحكم الدين والعقل: منطق «المجلس العلمائي» أعوج (٢-٢) - (30 يناير 2012)
- بحكم الدين والعقل: منطق المجلس العلمائي أعوج - (29 يناير 2012)
- توحيد الصف خلف الدولة لايزال مسألة مصيرية - (26 يناير 2012)
- البحرين والاتفاقيات الدولية في ظل الانقسام الشعبي (٣ - ٣) - (25 يناير 2012)
- البحرين والاتفاقيات الدولية في ظل الانقسام الشعبي (٢) - (24 يناير 2012)