من مفكرة سفير عربي باليابان
«الربيع العربي» والتجربة اليابانية
 تاريخ النشر : السبت ١١ فبراير ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن
لقد تفاءل العالم بانتفاضات منطقة الشرق الأوسط في عام ٢٠١٠، ليدفع البعض لوصف هذه الانتفاضات بالربيع العربي، وحينما أخذت تطول أحداث هذه الانتفاضات، وتأخذ منحى جديدا من العنف الدموي واللاعقلانية، بدأ يتحول الربيع إلى خريفه. ومن الغرابة أن يمتد هذا الخريف إلى جمهورية مصر العربية، فمن المعروف عن الشعب المصري أنه شعب طيب مسالم، ولذلك صدم العالم بأحداث مدينة بورسعيد، التي ارتفع عدد ضحاياها بين قتيل وجريح إلى مئات عدة، وبسبب عنف عاطفي لا عقلاني، على مباراة لكرة القدم، بين فريق الأهلي وفريق المصري، ويبقى السؤال المحير: ما الذي يدفع الإنسان لكي هذا النوع من السلوك، حينما تتقلص قوى الأمن في المجتمع؟ وكيف سيتعامل العرب مع الموجة الجديدة من الحرية في مجتمعاتهم؟ وهل تحتاج هذه الحرية إلى نوع محدد من الانضباط، والذكاء، والحكمة؟ وهل يمكن أن يستفيد العرب من التجربة اليابانية في بناء مجتمع متناغم، ومتآلف، بعد دمار الحرب العالمية الثانية؟ ألم يدهش العالم في العام الماضي، أيضا، من طريقة التعاطف، والتآلف، والتناغم، التي تعامل بها الشعب الياباني مع الدمار الثلاثي للزلازل، والتسونامي، وتسرب الإشعاع النووي؟
يذكرني غضب إرهاصات العنف في مجتمعاتنا العربية بعد انتفاضات ما سمي الربيع العربي، بمقولة فيلسوف الإغريق أرسطو، حينما قال: «من السهل أن يغضب أي منا، ولكن أن نغضب في الوقت المناسب، وبدرجة مناسبة، وبطريقة مناسبة، ولسبب مناسب، وبالشخص المناسب، فذلك ليس سهلا». وارتبط ذلك في ذهني بعقلانية اليابان بعد دمار الحرب العالمية الثانية في التعامل مع الهزيمة، وتناسي الدمار الرهيب، والابتعاد عن الحقد، والانتقام، وبدء العمل مع المنتصر، بنظمه ودستوره، واقتصاده، وبسرعة متناهية، فقد انتهت الحرب في عام ١٩٤٥، وصدر الدستور المفروض من الحلفاء في عام ١٩٤٧، ولم يضيع الشعب الياباني الوقت في الخلاف والصراع حول الدستور المفروض، بل تفرغ لبناء الوطن من جديد، بعد أن أصر الشعب الياباني على المحافظة على إمبراطوره ونظامه الإمبراطوري، كرمز مقدس لوحدة البلاد، وعمل بكل طاقاته لبناء معجزته الاقتصادية والتكنولوجية خلال ثلاثة عقود. ويحار الإنسان في سبب اختفاء عواطف الحقد والانتقام بين الشعب الياباني، ويدهش لمدى الذكاء العاطفي والحكمة بين أفراده وقياداته، ليتساءل كيف طور هذا الشعب ذكاء هذه التجربة؟ وهل يحتاج العرب إلى هذا النوع من الذكاء مع تجربتهم الجديدة، المسماة الربيع العربي؟
كتب جون دوور في كتابه: عناق الهزيمة، يقول: «بروز اليابان كأمة متقدمة أذهل العالم، بسرعة، وبجرأة، وبنجاح، بصورة مخبلة، قاتلة، محطمة، لم يتصورها أحد. فقد كانت جزرا نائية، كالنمر النائم، لا يسمع عنها أحد، وفجأة برزت كجني يخرج من القارورة، فيتوسع، ويحارب، ويحطم حتى الدمار التام، ثم يبدأ من جديد وبنجاح باهر. لقد دهش الأمريكيون حينما دخلوا اليابان بعد انتهاء الحرب، فوجدوها مدمرة تماما، واستغربوا تأخر اليابان عن الاستسلام حتى يصل الوضع إلى هذه الدرجة من الانهيار، وتساءلوا كيف كانوا بهذه الرعونة؟»، ولنتساءل: كيف تغير الشعب الياباني بعد الحرب، وحول ما سميت الرعونة، إلى حكمة السيطرة على العاطفة؟ أليس غريبا هذا العقل البشري؟
ليسمح لي عزيزي القارئ بمقدمة علمية. يتكون العقل البشري من وحدات مستقبلة، ومفكرة، ومصدرة، وهي الخلايا العصبية، بالإضافة لشبكة معقدة من ألياف الاتصالات البيولوجية. وتقوم هذه الشبكة المعقدة بنقل ما يدور في محيطنا من خلال الحواس السبع، إلى خلايا التفكير والتحليل، لتقرر هذه الخلايا نوع الاستجابة اعتمادا على عددها، ودقة عملها، والخبرة المتراكمة من أخطاء الماضي، وايجابياته. ويختلف البشر في كيفية التعامل مع الخبرة الحياتية لتوجيه هذه الخلايا، لينتج منه ما يسمى الذكاء، المرتبط بحل المعضلات، وأخذ القرارات اللازمة. ولكي ننمي ذكاء الطفل، نحتاج إلى تطوير طريقة تفكيره، بالبحث بدقة عن المعلومة، وجمعها، لحل المعضلات الحياتية، ويحتاج ذلك إلى التناغم بين التربية المنزلية، والتربية المجتمعية، والتربية المدرسية.
ومنذ أن خلق الخالق، جل شأنه، الإنسان، رافقته غريزة مهمة، هي غريزة الخوف من الخطر، لتحاول أن تحميه من كل شر، بمراقبة أعضاء حواسه أعراض الخطر، ونقلها لخلايا المخ، ليقيم ويحلل الذكاء الذهني الظرف، ويقرر كيفية الاستجابة للخطر، وقد يتقدم الانفعال العاطفي أحيانا على هذين التقييم والتحليل، ليسيطر على الوضع، فيتصرف الإنسان بسرعة خاطفة، بطريقة انفعالية خطرة ومدمرة، قبل تدخل الذكاء الذهني. وهنا بيت القصيد، كيف يتحكم الذكاء العاطفي في انفعالات الغضب العاطفية، خلال الأزمات الصعبة، ليوجه هذه الانفعالات لقوة تحمي الإنسان، وتحقق تنميته وسعادته وازدهاره، بدل أن يتحول لرد فعل يحطمه بالعنف، والقتل، والدمار؟
قال قائد الهند العظيم، مهاتما غاندي: «قانون العين بالعين، جعل العالم أعمى». لقد حولت موجة رد فعل الغضب الانفعالي، الانتقام، عالمنا الصغير لعالم أعمى، بالصراعات، والعنف، والقتل، فكيف نطهر مجتمعاتنا من ظواهر العنف هذه؟ لقد درس علماء النفس، لحل معضلة العنف والانتقام، مسألتين، هما حاجات الإنسان، ونمو ذكائه العاطفي. فقد قام البروفيسور الأمريكي، أبراهام ماسلو، أستاذ العلوم النفسية بجامعة نيويورك، بدراسة علاقة نمو العقل البشري بحاجاته المادية، والنفسية، والروحية. وقد بينت أبحاثه أنه لكي يتربى الإنسان تربية سليمة، جسميا، وعقليا، وذهنيا، واجتماعيا، وعاطفيا، وروحيا، يلزمه حاجات فسيولوجية، كالأكل، والشرب، والجنس، والملبس، والمسكن، والأمان، بالإضافة لحاجات نفسية هي الود العاطفي والتعاطف مع العائلة، والأصدقاء، وزملاء العمل، والمعارف، وأبناء الوطن، وربما تناغمه مع الجنس البشري والطبيعة المحيطة به. كما يحتاج إلى عمل يرتزق منه، ويثبت من خلاله شخصيته، بالإنتاجية والإبداع، وان يمتلك حكمة تفكير ليعالج بها معضلات الحياة، وأن يتمتع بقيم أخلاقية، وروحية، ودينية، ليتعامل مع ما حوله بسكينة واتزان، وأخيرا، وليس آخرا، يحتاج إلى الصحة، والعدالة، والسعادة، ليستمتع بالحياة، ويقدر قيمتها. والسؤال: كيف يتكون العقل الإنساني بذكائه وعاطفته لو انعدم توافر بعض هذه الحاجات؟ هل ممكن أن تنقلب سعادته إلى تعاسة؟ أو قد يختار طريق العنف ليتعامل مع معضلات الواقع؟ وهل سيبدأ بالحقد، والانتقام، وينتهي، بالقتل، والدمار؟
قد يقول البعض إنه مع توافر الحاجات فالعنف حقيقة اليوم، وقد يكون ذلك صحيحا حينما نتكلم عن الحاجات المادية الفسيولوجية، وليس الحاجات النفسية والروحية. ويبقى السؤال: هل نحتاج إلى دراسة هذه الظاهرة وارتباطاتها بالتطورات المجتمعية الحديثة؟ وهل نستطيع تغيير عادات الغيرة والحقد، والانتقام، ليستطيع البشر حل مشاكلهم بالعقل، والحكمة، وعدم الأنانية، وبالسيطرة على العواطف؟
لو راجعنا التاريخ الأمريكي بمتقلباته، وعواصفه، لنتذكر مقولة الرئيس ريتشارد نيكسون: «الذين يعتقدون أنهم أعداؤك، حينما تكرههم، هم الفائزون، وأنت الخاسر». فماذا تعني هذه المقولة؟ هل تعني أنك حينما تشاطر العداء مع من يتصوروا أنهم أعداؤك، تحطم المستقبل، بتضييع وقتك في صراعات الماضي، لتملأ نفسيتك بالكراهية والألم، ولتفقد توازنك النفسي، وتفكيرك، وحكمتك، بل لتفقد راحتك النفسية، وسعادتك؟ وتصور إذا فقد الإنسان توازنه، وتفكيره، وحكمته، ما الذي سيبقى له من مميزات الجنس البشري؟
يكرر اليابانيون حكمة ورثوها من الثقافة الصينية الكنفوشيوسية: «الحقيقة، من قال هناك حقيقة؟»، هذه حكمة مهمة، تعني لا أحد منا يملك الحقيقة، وذلك يدفعنا دائما للبحث والاكتشاف، ولن نصر على أننا قد وجدنا الحقيقة، لأن الحقيقة تتغير، لنستمر في الإبداع، والاختراع. وتجعل تلك الطريقة من التفكير ألفة احترام الاختلاف، لتحافظ على تناغم عمل الفريق، وتميز إنتاجيته. وتبدأ الخلافات والصراعات حينما نعتقد أننا اكتشفنا الحقيقة وحدنا، فما أقوله هو الصحيح، وما أفكر فيه هو الحقيقة، وما أفعله هو الفاضل، وما أومن به هو المستقيم، ويجب ألا يفكر غيري بطريقة أخرى، ويجب ألا يختلف مع رأيي أي إنسان آخر.
وليسمح لي القارئ العزيز بعرض تجربتي الحياتية مع الطب، فقد بدأت دراسة الطب وجراحتها قبل سنين طويلة، ولن تصدق كم من حقيقة درستها وطبقتها تغيرت واضمحلت؟ كم من عملية جراحية أجريت في تاريخ العالم كانت تعتبر ضرورية، وأصبحت اليوم ممنوعة؟ كم من عملية جراحية أجريت بقطع الأوصال، وشق الصدور والبطون، وأصبحت اليوم تجرى بدون المبضع؟ فهل هناك فعلا حقيقة حياتية دائمة، غير حقيقة الخالق جل شأنه؟ وهل من حقنا أن نعتقد أننا نملك الحقيقة، ولا يملكها غيرنا؟ ولنفرض أننا قبلنا بأننا لسنا وحدنا من يملك الحقيقة، فهل سنحترم رأي الآخرين، لتصبح اختلافاتنا سهلة الحل، بالحكمة، والعقل، والحوار غير الانفعالي المنطقي؟ ألا نتصور أن لذلك علاقة بديمقراطية التفكير؟ الم يقل فولتير إنه مستعد لأن يضحي بحياته ليعطي الفرصة لمن يخالفه الرأي ليعبر عن رأيه؟ ألا نحتاج إلى هذا النوع من احترام ديمقراطية التعبير في مجتمعاتنا العربية؟ أليس من الأفضل أن نبدأ بتطبيقها على أنفسنا، قبل أن نفرضها على الآخرين؟ ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.