الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٨٠ - الثلاثاء ١٤ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٢ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


الاستثمارات الخليجية وإنعاش التعاون العربي





يمر التعاون العربي في المرحلة الحالية بمنعطف خطير يوشك أن يعصف بكل ما تحقق على صعيد العمل العربي المشترك سواء من خلال جامعة الدول العربية أو مؤسسات هذا العمل الأخرى بسبب حالة عدم الاستقرارين السياسي والأمني وتردي الأوضاع الاقتصادية في كثير من الأقطار العربية، الأمر الذي غلب في هذه الأقطار الاهتمام بالشأن الداخلي من ناحية وأوقف تنفيذ ما سبق اتخاذه من قرارات في القمم الاقتصادية العربية الأخيرة من ناحية أخرى، وإذا كانت منظومة العمل العربي المشترك قد سقط منها الصومال في مرحلة ثم العراق في مرحلة ثانية، وتقسيم السودان في مرحلة ثالثة، فإن هذه المنظومة يتهددها منذ ثورات السنة الماضية جمود أو على الأقل ضعف دور كل من مصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس، وقد غدت هذه الدول مضافًا إليها الصومال والعراق والسودان ليست فقط في حالة إجازة من التنمية، ولكن تردي الأوضاع الاقتصادية فيها يعود فيضاعف من حالة عدم الاستقرارين السياسي والأمني، ولن تستطيع هذه الدول بمفردها الخروج من هذه الأوضاع الاقتصادية السياسية الأمنية، وإذا كان التعاون العربي لا غنى عنه لإبقاء المنظومة العربية حية، تصبح المسؤولية التاريخية في اللحظة الراهنة ملقاة على عاتق دول مجلس التعاون الخليجي.

ولا يحتاج الأمر إلى شهادة جدارة من صندوق النقد الدولي حتى تهب دول مجلس التعاون الخليجي لمد يد العون لبعض أعضاء المجلس (البحرين وعمان) وإنقاذ شعوب هذه الدول، فهذه الشهادة قد تكون مطلوبة إذا كان هناك قرض سيمنح، ويبحث مانحه عن ضمانات الاسترداد، ولكنها دول عربية شقيقة مهددة بالانهيار، وانهيارها سيلحق أضرارًا فادحة بالمنظومة العربية كلها، وإذا كانت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية قد هبت لإعانة أوروبا وإعادة بناء الاقتصادات الأوروبية المنهارة، وقدمت حينئذ ما عرف بمشروع مارشال، فإن المنطقة العربية الآن في حاجة إلى تبني القمة العربية القادمة إذا عقدت (وإلا مطلوب عقد قمة عربية استثنائية) مشروع مارشال عربيا تتولاه أساسًا المنظومة الخليجية العربية، وقوام هذا المشروع الاستثمارات الخليجية المباشرة في البلدان المشار إليها، خاصة الاستثمارات المتوجهة للخدمات الاجتماعية والبنية الأساسية وتعزيز القدرات الإنتاجية، وفي غياب هذا المشروع العربي تصبح المنطقة العربية مهددة بإعادة استنساخ حالات أندلسية أخرى.

وتستطيع المنظومة الخليجية القيام بهذا الدور بعد معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة التي حققتها في ٢٠١١ وقبلها في ٢٠١٠، و٢٠٠٨ (يقدر صندوق النقد الدولي هذا المعدل في ٢٠١١ بـ ٧,٨) وبعد أن غدا ناتجها المحلي الإجمالي يتجاوز ١٤٠٠ مليار دولار سنويا، كما أن هذه المنظومة قد سبق أن اضطلعت بمسؤوليات مماثلة حين أقرت وقامت بدعم صمود دول الطوق العربي بعد حرب ١٩٦٧، ومن خلال المشروعات التنموية التي ساهمت في تمويلها الصناديق الخليجية في العديد من البلدان العربية، ومن خلال المبادرات التي قدمتها ورصدت تمويلاً لها في القمم العربية المختلفة خاصة القمم الاقتصادية، بل إنها أخذت تنظر إلى المنطقة العربية قبل الأحداث السياسية في ٢٠١١ كمنطقة استثمارات مفضلة، وينتظر الكثيرون من مستثمري الخليج أن يستقر الأمن في هذه البلدان حتى تعود هذه الاستثمارات إلى سيرتها قبل الأحداث التي وقعت فيها.

ويبين تطور العلاقات الاقتصادية العربية أن العقد الأخير قد شهد نموٌّا كبيرًا وسريعًا للاستثمار المباشر من دول مجلس التعاون الخليجي في البلدان العربية، وهذه الاستثمارات إضافة إلى تحويلات العاملين، أسهمت بشكل كبير في النمو الاقتصادي القوي للبلدان العربية، وفي هذا العقد قامت هذه البلدان بجهود ضخمة في الإصلاح الهيكلي وعمليات الخصخصة والتحرر الاقتصادي مما أسهم في تحسن مناخ الاستثمار وجذب الاستثمارات الخليجية، حتى غدت هذه الاستثمارات تنافس في ضخامتها الاستثمارات الأمريكية والأوروبية، وقد فاق نمو علاقات الاستثمار البينية العربية نمو علاقات التجارة، ففي عام ٢٠٠٨ بلغ حجم التجارة الخليجية العربية البينية ١٧ مليار يورو بما يمثل ٢,٨% من إجمالي تجارة دول مجلس التعاون الخليجي، وفي ٢٠٠٩ تراجع هذا الرقم إلى ١٣ مليار يورو بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية ليصل إلى ٢,٥% من إجمالي تجارة دول مجلس التعاون الخليجي، وكانت التجارة مع الشرق العربي أكبر من مثيلتها مع المغرب العربي، فمع سوريا بلغت ٥ مليارات يورو في ٢٠٠٨ و٣,٥ مليارات في ٢٠٠٩، ومع مصر ٤ مليارات في ٢٠٠٨ و٣,٦ مليارات في ٢٠٠٩، ومع الأردن ٣,٧ مليارات يورو في ٢٠٠٨، و٢,٦ مليار في ٢٠٠٩، أما المغرب فبلغ حجم تجارته مع دول مجلس التعاون الخليجي ٢ مليار يورو في ٢٠٠٨ و١,٢ مليار في ٢٠٠٩، ومع ضعف التجارة الخليجية المغربية، إلا أن المغرب غدا وجهة استثمار خليجية مفضلة.

وفي الفترة من ٢٠٠٣ إلى ٢٠٠٨ بلغ تدفق الاستثمارات الخليجية للشرق الأوسط وشمال افريقيا ٦٥,٨ مليار يورو أو نحو ٢٨,٦% من إجمالي التدفق الاستثماري على هذه المنطقة البالغ ٢٢٩,٨ مليار يورو، وفي السنوات الـ ٦ الأخيرة غدا مجلس التعاون ثاني أكبر مستثمر في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا بعد الاتحاد الأوروبي الذي استثمر فيها نحو ٨٥,٩ مليار يورو في هذه الفترة، ويمثل المجلس والاتحاد الأوربي ثلثي إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

ويمثل المشرق العربي المقصد الرئيسي للاستثمارات الخليجية في هذه المنطقة، بينما المغرب العربي يستهوي الاستثمارات الأوروبية، وتعد مصر أكبر مستقبلي الاستثمارات الخليجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، حيث استقبلت من المبلغ المذكور بعاليه ٢٥,٦ مليار يورو، بما يمثل ٤٩% من إجمالي التدفق الاستثماري عليها في هذه الفترة، كما تعد الإمارات العربية المتحدة هي مستثمر مجلس التعاون الخليجي الأكبر في منطقة المشرق العربي بإجمالي ٣٥,٨ مليار يورو تليها الكويت ١١,٧ مليار يورو ثم السعودية ١١,١ مليار يورو، كما تعد الإمارات أيضًا ثاني أكبر المستثمرين في منطقة المتوسط ككل بعد الولايات المتحدة برصيد استثمارات ٣٧,٣ مليار يورو، أو بنسبة ١٥,٥% من إجمالي الاستثمار في منطقة المتوسط، مع الاختلاف في توجه معظم الاستثمارات الأمريكية إلى إسرائيل، بينما توجهت الاستثمارات الإماراتية إلى تركيا ومصر وبلدان عربية أخرى.

وفي السنوات الست الأخيرة استقبلت مصر النصيب الأكبر من تدفق الاستثمارات الإماراتية بإجمالي ١٨ مليار يورو، وفي ٢٠٠٨ بدأت ٤٢١ شركة إماراتية عملها في مصر، من بينها ٦٤ شركة تشييد و٤٤ شركة خدمات مالية و١٢٥خدمات أخرى، و٤٠ زراعية و٣٨ سياحية، و٨٧ صناعية، وقد ظلت مصر وجهة الاستثمار المفضلة لمستثمري الخليج، وجذبت عمليات الخصخصة بها تدفق الاستثمارات الخليجية المباشرة، كما تعد مصر والمغرب مقاصد مفضلة للسياحة الخليجية، وكانت معظم الاستثمارات الخليجية في قطاعي العقارات والسياحة وشملت المشروعات الرئيسية مشروعات شركة إعمار الإماراتية العقارية والسياحية على ساحل المتوسط وكورنيش النيل، واستثمارات شركة ديار القطرية ومجموعة الفطيم دبي في المجالات المذكورة.

غير أن تدفق الاستثمارات الخليجية إلى البلدان العربية قد تأثر بتداعيات الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨ مثلها مثل غيرها من مصادر الاستثمار الأخرى، الأمر الذي ترتب عليه تأجيل أو إلغاء كثير من المشروعات خاصة في المجال العقاري. وبينما شهد عام ٢٠٠٧ إعلان دول مجلس التعاون الخليجي ١٤٢ مشروعًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، فإنها في ٢٠٠٨ أعلنت ١٣٥ مشروعًا، ويظهر الهبوط واضحًا حين المقارنة مع أرقام ٢٠٠٦، وفيها بلغ التدفق الاستثماري من مجلس التعاون الخليجي للشرق الأوسط وشمال افريقيا ٢٣,٥ مليار يورو بنسبة ٣٦% من الإجمالي البالغ ٦٤,٢ مليار يورو، لتأخذ مكان الصدارة من الاتحاد الأوروبي (٢٥%) وكان عدد المشروعات الخليجية المعلنة للاستثمار المباشر ١٥٨ مشروعًا.

وكانت أربعة من أكبر ١٠ مشروعات أعلنت في ٢٠٠٨ مشروعات إماراتية تزيد قيمة كل منها على مليار يورو، وأكبرها بقيمة ٤,٦ مليارات يورو وهو المشروع العقاري في تونس «بورتا مودا» من قبل هيئة استثمار أبوظبي وبيت التمويل الخليجي والثاني مشروع تطوير ميناء العقبة الأردني ومشروع سياحي ضخم بقيمة ٣,٣ مليارات يورو من قبل شركة المعبر والثالث مشروع دنيا بارك الجزائري بقيمة ٥ مليارات يورو من قبل الشركة الإماراتية الدولية والرابع مشروع شركة إعمار العقارية «المراسي» في مصر بقيمة ١,٢ مليار يورو، وكانت مشروعات النقل واللوجستيات الأكثر صمودًا في فترة الأزمة، وفي ٢٠٠٨ أعلنت دول المجلس ١٣ مشروعًا في هذا القطاع ٩ منها من قبل الإمارات متركزة في المشرق العربي والجزائر وتصدرتها مشروعات المواني التي كان أبرزها ميناء السخنة في مصر من قبل مواني دبي العالمية، كما عزز المستثمرون الخليجيون وضعهم في الجزائر بتدشين ١٥ مشروعًا استثماريٌّا مباشرًا بقيمة إجمالية ٤,٩ مليارات يورو.

وكل هذه الأرقام السابقة وما تعكسه من تغير جغرافي في توجهات الاستثمارات الخليجية، تعطي مؤشرًا قويٌّا على الدور الذي يمكن أن يؤديه استئنافها إنعاش التعاون العربي، بل إنقاذه، هذا التعاون الذي بات يواجه الآن إشكالية التفكك، غير أن المسؤولية عن القيام بهذا الدور هي مسؤولية متبادلة بين مصدر الاستثمار المتوقع وهو دول مجلس التعاون الخليجي، ومتلقي هذا الاستثمار من الدول العربية وخاصة مصر فهي الأكثر حاجة إلى مثل هذا الاستثمار في الوقت الراهن، فمصدر الاستثمار عليه أن يعيد توجيه استثماراته إلى المشروعات الأكثر توفيرا لفرص العمل والأكثر تشغيلا للشباب، وهو الذي سبق أن أكدته قرارات القمم الاقتصادية العربية، ولا يتعين عليه انتظار إشارات من المؤسسات الاقتصادية الدولية التي عادةً ما تكون إشاراتها ذات طابع سياسي، ونذكر هنا موقف هذه المؤسسات من تمويل مشروع السد العالي في مصر في خمسينيات القرن الماضي، وعلى متلقي هذه الاستثمارات من دول العالم العربي أن يجتهد في توفير مناخ الاستثمار الملائم الذي أساسه الأمن والاستقرار السياسي وحكم القانون واحترام العقود والتعاهدا































.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

    في مواجهة الشر .. لا مجال للصمت

    أمس تشرفت بحضور مجلس سمو رئيس الوزراء بعد فترة طويلة من الغياب. وقد وجدت المجلس مكتظا بالمواط... [المزيد]

    الأعداد السابقة