من مفكرة سفير عربي في اليابان
«الربيع العربي» وثورة التعليم
 تاريخ النشر : السبت ١٨ فبراير ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن
أدت تحديات العولمة السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والتكنولوجية، إلى انتفاضة عالمية في عام ٢٠١٠، بدأت بثورة الشاي من شوارع مدينة نيويورك، لتنتقل إلى الحرائق في مدينة لندن، ولتمتد إلى الشرق الأوسط، بتغيرات في أنظمة الحكم من تونس ومصر حتى ليبيا واليمن، وقد تتبعها سوريا قريبا. وقد ربط الكثير من المفكرين هذه الانتفاضات بتمكين الشباب، من خلال تكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت، التي أوجدت بيئة لتبادل الأفكار، وتنظيم الاعتصامات، والمظاهرات، وليتفاءل البعض ليسميها انتفاضات الربيع العربي، ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل يمكن أن تتطور المجتمعات العربية من دون تطوير الإنتاجية المبدعة؟ وهل يمكن تطوير الإنتاجية المبدعة من دون تطوير التعليم؟ وما هي تحديات التعليم في وطننا العربي؟
تحديات التعليم في وطننا العربي كبيرة ومتشعبة، وأهمها فلسفتنا التعليمية التقليدية التي تعتمد على جمع المعلومة وتلقينها، وتجنب المساءلة، وتوجيه التفكير التقليدي، وتربية العمل على التواكل لا الإتقان، وسيطرة تعليم العلوم الطبيعية على العلوم الروحية. وليسمح لي عزيزي القارئ، لأقدم شخصية لنتعرف من خلالها قوة التعليم في تنشئة أجيال الحياة، لا أجيال الموت، وهي السيدة هيلين كيلر. ولدت الكاتبة كيلر عام ١٨٨٠، وقد أصيبت في الشهر التاسع عشر من عمرها بحمى شديدة أدت إلى فقدانها البصر، والسمع، والتكلم. وتعرفت في السنة السادسة من عمرها إلى الآنسة ان سوليفان، التي علمتها أبجدية اللمس. وقد تحدت الآنسة كيلر عاهتها وأكملت دراستها الجامعية بتفوق. وقد نشرت قصة حياتها في عام .١٩٠٢ ويبقى السؤال: ما هي الظروف التي تحول الأعمى والأصم، لبصير ومفكر كالآنسة كيلر؟ وما هي فلسفة التربية المجتمعية، والتعليم المدرسي، التي تحول كامل السمع والبصر، ليفجر نفسه، ليقتل أبناء شعبه، ليحطم اقتصاد بلاده؟
التقت الآنسة كيلر الفيلسوف الياباني شونسوكي تسورومي في نهاية الثلاثينيات، حينما كان طالبا بجامعة هارفارد، فنصحته بقولها «لقد تعلمت الكثير في الجامعة، ولكن بعدما تخرجت، كان علي أن أتناسى ما تعلمته وأبدأ من جديد». حاول السيد تسورومي أن يتفهم معنى كلمة التناسي، فشرحها بقوله: «تصورت أنني تعلمت حياكة «جاكتة» الصوف في الجامعة، وحينما تخرجت فتقت هذه الحياكة من جديد لخيوط صوفية، ثم قمت بحياكتها من جديد على قياس جسمي». وشرح في حواره كيف أن الآنسة كيلر تناست المعلومات الجامعية الملقنة، وفهمتها بطريقة جديدة، لتستفيد منها في دراسة تحديات مجتمعها، وإيجاد الطرائق المناسبة للتعامل معها.
ولو تعمقنا في حوار الفيلسوف الياباني لفهمنا أنه لا يؤمن بتلقين المعلومة، بل يعتقد أن على التعليم أن يركز في التدريب على البحث عن المعلومة، والاستفادة منها في التعامل مع التحديات الحياتية، وأن المشاكل الحياتية ليست مرتبطة بحقيقة معينة ثابتة، بل هي تحديات تتغير مع الزمن، والظروف المرافقة، كما ليس هناك حلول ثابتة، بل هناك طرائق متغيرة لمحاولة التعامل مع التحديات حسب الظروف وزمانها.
وقد تكون أحد تحديات تعليمنا هو تفكيرنا الأفلاطوني، باعتقادنا أن هناك حقيقة واحدة، نحاول الوصول إليها، وإذا اكتشفنا هذه الحقيقة، تبقى كل الأفكار الأخرى خاطئة، وبعيدة عن الحقيقة التي نؤمن بها، وأن مشاكلنا لها حلول متحجرة، وقد نحتاج إلى الرجوع إلى التاريخ لإيجاد بعض هذه الحلول، ومن دون المساءلة. وهنا تختلف الفلسفة اليابانية، المأخوذة من الفلسفة الصينية، عن فلسفتنا العربية الأفلاطونية، فهي لا تؤمن بأن هناك حقيقة ثابتة، بل ان المعلومات متغيرة وفي تطور دائم، كما أن التاريخ يحتاج إلى دراسة متسائلة للاستفادة منه وتجنب أخطائه. وهذه الفلسفة مهمة جدا للتناغم المجتمعي، فحينما يؤمن الجميع بأن لا أحد منا يملك الحقيقة، ولكل منا حرية الرأي، من دون أن نفرض رأينا على الآخرين، بل نحترم اختلاف الآخرين ونستفيد منه، لينتشر الاحترام، والوئام، والتناغم المجتمعي، وتتطور فلسفة عمل الفريق، وتزداد إنتاجية المجتمع، ويتطور اقتصاده.
ويرجع البعض تخلف تفكيرنا، إلى تشبثنا الأبدي بما نعتقد أنه الحقيقة، وكل من يخالفنا هو حاقد، أو منافق، أو رجعي. وبذلك نوقف الحوار المنتج، مما يؤدي إلى التخوف المجتمعي من التعبير عن الأفكار، وتنعدم الحوارات الفكرية الديمقراطية المنتجة، وتتخلف ثقافة التطور الفكري، وتتحجر العقول، ويزداد الخلاف، لتنتهي بصراعات فكرية مفلسة وانعدام الإبداع، وانتشار الغيبة، والنميمة، والنفاق. فالإبداع يحتاج إلى بيئة صالحة، ينعدم فيها الاعتقاد أن الفكرة المعينة، وأحيانا التاريخية، هي الحقيقة المطلقة، بل إن جميع الأفكار يمكن أن تساءل، وتناقش، وتطور بحرية. فالتحاور الفكري ينير العقول، ويطور الأفكار، ويبرز الأفكار المبدعة والمتناغمة، ويؤدي إلى اكتشافات واختراعات جديدة.
والتحدي الآخر في فلسفة تعليمنا هو إصرارنا على إيجاد حل متحجر للمعضلة، وليس دراسة التعامل مع تحدياتها، فحينما نعتقد أن هناك مشكلة محددة وهناك طريقة وحيدة لحلها، ستتحجر عقولنا نحو طريقة واحدة جامدة، لحل ثابت، ومطلق، ومن الممكن ألا يكون هذا الحل واقعيا، بل لا يمكن تحقيقه، فنستمر في الخلاف حوله وتضيع السنون، لتتعقد المشكلة، وتنعدم الحلول. وهنا يمكن أن نشبه ذلك بسائق سيارة يواجه صخرة كبيرة في وسط الشارع، ويعتقد أن هناك حلا فريدا، هو بأن يتواكل على الله، ويسوق بسرعة فائقة، ليصطدم بالصخرة الكبيرة، فقد يستطيع تحريكها، لاعتقاده أن الخالق، جل شأنه، سيغير جميع القوانين الفيزيائية، لتتماشى مع تواكله. وطبعا لن تتحرك الصخرة، ولكن ستتحطم سيارته، ويصاب بجروح بليغة، وقد يستمر، برعونة، في تكرار المحاولة. وللأسف الكبير، أن تاريخنا العربي مليء بمثل هذه الأمثلة التاريخية، التي أدخلتنا في مجابهات وحروب، أدت إلى ما نحن فيه. فقد نحتاج إلى تطوير فن دراسة الاحتمالات، وتعلم اكتشاف طرائق مبدعة للتعامل معها. ويلزم ذلك تطوير فلسفة تعليمية تنير العقول بالتساؤل المستمر، وتدريبها على التعامل مع التحديات، وذلك بعرض المعضلة وتشجيع الطلبة على الحوار لمعرفة تشابكاتها وتحدياتها، وتمرينهم على طرائق البحث عن المعلومة، المساعدة إيجاد الطرائق المناسبة للتعامل معها.
ولنعرض عزيزي القارئ بعض الأمثلة التاريخية في التعامل مع التحديات، فلنتذكر أن الحرب الباردة استمرت عقودا طويلة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، بسبب تحجر العقول في خلاف رأسمالي شيوعي. وحينما زار جورباتشوف فرنسا، واستعد لتأمل الديمقراطية بعقل متفتح، وتعرف نتائجها، وراقب ما يتمتع به الشعب الفرنسي، من حرية، وتطور اجتماعي، وثراء اقتصادي، اكتشف أن دكتاتورية البوليتاريا عقيم.
وحينما تسلم دنج هيسياو بنج القيادة في الصين، وأكتشف تحديات بلاده الاجتماعية، والاقتصادية، وتخلفها التكنولوجي، وبدأ يقارن تخلف الصين بغنى الغرب، قال مقولته: «ليس المهم أن يكون القط أسود أو أبيض، بل المهم أن يصطاد الفئران». ويعني بذلك أنه ليس من المهم أن يكون النظام رأسماليا أو اشتراكيا، بل المهم أن يطور الاقتصاد، ويزيل الفقر والتخلف، وبذلك توجهت الصين لاقتصادات الألفية الثالثة.
ولنطرح عزيزي القارئ معضلة أخرى في تعليمنا وهو التواكل. فيؤكد الحديث الشريف أن علينا أن نعقل ثم نتوكل، وللأسف الشديد تحولت ثقافتنا العملية للتواكل لا التوكل. فلم نعد نهتم بالعمل الجاد المتقن، ولا نستفيد من الوقت الذي ان لم نقطعه قطعنا كالسيف، فهل خلق الخالق، جل شأنه، هذا الكون بقوانين فيزيائية دقيقة ومتقنة، أم ترك هذه القوانين فوضوية، تتغير في كل لحظة، حسب تواكلنا وصلواتنا؟ وهل الغاية من صلواتنا تطهير النفوس وتدريبها على القيم والأخلاقيات، أم تحقيق جشعنا المادي ببناء قصور في الجنة؟ ألم يكرر الحديث الشريف مرارا أهمية العمل، وقدسية إتقانه، واعتبره خير العبادات؟ ألم يؤكد ديننا الحنيف أن نعمل لدنيانا كأننا سنعيش إلى الأبد، ونعمل لآخرتنا كأننا سنموت في الغد؟
ومن تحديات تعليمنا المستقبلي تكوين التوازن بين العلوم الطبيعية والروحية، فتطوير اقتصادنا المستقبلي سيحتاج إلى تعليم متقدم في العلوم الطبيعية، كالفيزياء، والرياضيات، والكيمياء، ولكن هل سيكفي ذلك؟ أم سنحتاج أيضا إلى تطوير العلوم الروحية التي تعلم الإنسان السلوك السوي، للعمل كفريق متناغم ومنتج، وليتعامل مع مواطنيه، ووطنه، وموارده الطبيعية، بحكمة واتزان؟ وقد عبر التاجر الياباني، كوزو ايناموري، مؤسس شركة كيوسيرا، عن ذلك، بقوله: «الفلسفة التي أومن بها هي أنه لن نطمئن على مستقبل البشرية إلا من خلال بناء التوازن اللازم بين تطور العلوم المادية والعلوم الروحية. وأعتقد أنه يجب أن ننشئ هذا التوازن في الإنسان بين ذكائه الذهني، وذكائه العاطفي، وسيطرة الإرادة. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني، وتبخس قيمة الروح، والعاطفة، والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة، فمع بداية القرن الحادي والعشرين ستكون مسؤوليتنا الأساسية أن نرفع العلوم الروحية إلى المستوى نفسه الذي وصلت إليه العلوم الطبيعية والتكنولوجية، لنستطيع التعامل مع اختراعاتها بحكمة، لنرفع من قدر أذهاننا ونشرفها».
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.