الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٨٦ - الاثنين ٢٠ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٨ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


الاستثمارات الخليجية وخريطة الاستثمار العالمي





مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية

تعتبر كيفية استثمار الفوائض النفطية قضية مفتاح للاقتصادات الخليجية النفطية، ومن الناحية النظرية على الأقل يمكن للاقتصادات الريعية القائمة على استنضاب الموارد الطبيعية أن تكون من استثماراتها سواء الخارجية أو الداخلية عائدًا يمثل على الأقل بديلاً عن العائد الذي تحصل عليه في الوقت الحالي من بيع مواردها، ومن ثم حين تنضب هذه الموارد لا تكون هذه الاقتصادات أمام إشكالية انقطاع أو تدهور دخولها، ولكن مشكلة بلدان مجلس التعاون الخليجي هي في كيف يستثمر هذا الفائض خارجيا خاصة مع ضيق فرص الاستثمار في الداخل حتى لو كان هناك تنوع في اقتصادها؛ حيث إن هذا الاقتصاد محكوم في مجمله بصغر الحجم؟

وقد خبرت دول مجلس التعاون الخليجي مراحل متباينة في عملية مراكمة أصولها الأجنبية، فخلال موجتي صعود أسعار النفط في أوائل السبعينيات وآخرها مع أوائل الثمانينيات كانت معظم فوائض البترودولار موجودة في استثمارات الودائع المصرفية واستثمارات المحفظة في الدول المتقدمة وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد راكمت البنوك المركزية لدول مجلس التعاون الخليجي احتياطيات دولية في أصول عالية السيولة كأذون الخزانة المرتفعة العائد والسندات الحكومية والودائع المصرفية، بينما صناديق الاستثمار العامة مثل هيئة الاستثمار الكويتية ومثلها البنوك المركزية كوكالة النقد السعودية قد عملت كقنوات استثمار طويلة الأجل تستثمر في أدوات مالية أخرى معظمها استثمارات محفظة في البلدان المتقدمة، أما في موجة الارتفاع لأسعار النفط في الألفية خاصة من ٢٠٠٣ - ٢٠٠٨ فإن الاستثمارات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي حدث فيها تغير كبير في الأدوات والمواقع والفاعلين مقارنة بالموجتين السابقتين، فقد نشأ عدد من صناديق الثروة السيادية، ولم يعد الفاعلون يقتصرون على المصارف المركزية، وقد غدت شركات ضخمة مملوكة كليا أو جزئيا لحكومات أو عائلات خليجية تقوم بأدوار استثمارية كبيرة، كما أن مستثمري القطاع الخاص قد كونوا احتياطيات أجنبية كبيرة، ولكنهم مازالوا حذرين إزاء الاستحواذ على أصول دولية، مما حدّ من دورهم في النمو السريع للاستثمارات الخليجية الخارجية، أيضًا حدث تغير رئيسي في تخصيص الموارد بين أدوات الاستثمار في بروز الاستثمار الأجنبي المباشر كفرصة مهمة، وهذا تطور كان له دوره في العلاقات الاقتصادية بين بلدان مجلس التعاون الخليجي والعديد من دول العالم.

وفي السنوات الخمس المنتهية في يونيو ٢٠٠٨ بلغ رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق من بلدان مجلس التعاون الخليجي أكثر من ٩٠٠ مليار دولار، ولكن نقص البيانات لم يمكن من تتبع أكثر من ٤٠% من هذه التدفقات جغرافيا أو قطاعيا، حيث لا يصدر عن البنوك المركزية الخليجية أو الصناديق السيادية بيانات يمكن من خلالها تتبع نشاطها الخارجي، وهو ما جعل الوصول إلى رقم بشأن الخسارة الخليجية في الأزمة المالية ٢٠٠٨ أمرا شديد الصعوبة، وقد اعتمد تحليل البيانات أساسًا على ما يصدره الطرف الآخر، أي البلدان المستثمر فيها، كإحصاءات الخزانة الأمريكية والمراكز المالية الدولية، وطبقًا لهذه المصادر فقد ظلت الولايات المتحدة الوجهة التقليدية لتدفق الاستثمارات الخليجية الخارجية، فقد استحوذت وحدها على قرابة ٥٠% من هذا التدفق، بينما التدفقات إلى الوجهات الأخرى شهدت تنوعًا في أدوات الاستثمار، وجاءت أوروبا في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة ثم الشرق الأوسط وشمال افريقيا وآسيا، وهذه المناطق شهدت تزايدًا كبيرًا في نصيبها من الاستثمارات الخليجية، وبلغ حجم الاستثمار الخليجي المتدفق إلى الشرق الأوسط وشمال افريقيا نحو ١٢٠ مليار دولار أو ١٣% من إجمالي هذا التدفق وتلقت آسيا حجمًا مماثلاً بينما بلغ نصيب أوروبا ٢٠٠ مليار دولار.

ولم يكن التوسع في الاستثمار الأجنبي المباشر أمرًا يخص مجلس التعاون الخليجي وحدها بقدر ما كان اتجاها عاما سريع النمو، حيث يعد أحد الملامح الأساسية المفضلة في الدورة الاقتصادية التي انقطعت بالأزمة المالية ٢٠٠٨ - ٢٠٠٩، ويرتبط هذا بما يسمى ظاهرة الأسواق الناشئة، التي دعم الاستثمار الأجنبي المباشر نموها الاقتصادي بتكوين قدرات إنتاجية جديدة ونقله للتكنولوجيا، وانطلاقًا من المستوى المتحقق لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، فإن بلدان مجلس التعاون الخليجي تكون قد حققت نتائج طيبة مقارنة بالاتجاه العام لهذا الاستثمار سواء باعتبارها مستقبلة لهذه الاستثمارات أو مصدرة لها، وقد كان تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي مدفوعا بتحسن مناخ الاستثمار وارتفاع أسعار النفط والجهد الكبير للإدارات الاقتصادية في هذه البلدان في مجال تنويع مصادر الدخل في اتجاه الصناعة والخدمات.

وبين عامي ٢٠٠٠ - ٢٠٠٨، فإن تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل إلى مجلس التعاون الخليجي قد زاد من ٠,٠٣% إلى ٣,٧٤% من إجمالي التدفق العالمي، وقد حظيت السعودية والإمارات بالنسبة الكبرى من هذا التدفق، وتماشى التوزيع الجغرافي لتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل مع أنصبتها في الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادات مجلس التعاون الخليجي ككل، باستثناء الكويت التي استقبلت استثمارات أجنبية مباشرة قليلة مقارنة بنصيبها في هذا الناتج، والإمارات التي استقبلت أكثر بسبب تنوعها الاقتصادي الأكبر وتعدد المناطق الحرة فيها.

أما التدفق للخارج في الاستثمار الأجنبي المباشر لدول مجلس التعاون الخليجي فقد زاد بشكل ملحوظ بين ٢٠٠٤ - ٢٠٠٨ مدفوعًا بارتفاع أسعار النفط التي ولدت فوائض مالية كبيرة وتحسن مناخ الاستثمار والنمو الاقتصادي السريع للأسواق الناشئة، ومن حيث الأرقام المطلقة كانت الإمارات والكويت والسعودية هي المصادر الرئيسية لهذه الاستثمارات، ومن حيث الأرقام النسبية فإن الإمارات والكويت والبحرين فاقت في الاستثمار الأجنبي المباشر أكثر ما هو متوقع مقارنة بنصيب كل منها في الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي معًا، والعكس صحيح بالنسبة لكل من السعودية وعُمان.

وربما بنسبة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نجد تفسيرًا لذلك أخذًا في الاعتبارات أن عُمان والسعودية تسجلان مستوى أقل في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أقل من الإمارات والكويت والبحرين، والاستثناء الرئيسي هو قطر التي لديها أعلى مستوى لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وأقل نصيب من تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الخارج ربما لارتفاع الاستثمارات المحلية المرتبطة بالتطوير السريع لاحتياطياتها الغازية، ومن ٢٠٠٠ ؟ ٢٠٠٨ فإن نصيب اقتصادات مجلس التعاون الخليجي من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة قد ارتفع من ٠,١٢% إلى ١,٦% من الإجمالي العالمي.

ورغم انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في ٢٠٠٨ فإنه يظل بين الأعلى تاريخيا، وفيه لعبت نسبة التدفق من اقتصادات مجلس التعاون الخليجي ٢,١% من الإجمالي العالمي، وقد تركزت الاستثمارات الخليجية المباشرة في قطاعات معينة شملت الاستثمارات العقارية والسياحة وصناعة الترفيه والنقل والاتصالات والخدمات المالية ومشروعات التكرير والبتروكيماويات، وكانت معظم هذه التدفقات من قبل شركات حكومية أو صناديق إسلامية، وجذبت الأسواق الناشئة خاصة الصين والهند شطرًا كبيرًا من هذه الاستثمارات، ولكن نسبة لا بأس بها توجهت أيضًا إلى بلدان المتوسط.

وقد أظهر الاستثمار الأجنبي المباشر في مجمله تراجعا على المستوى العالمي في عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٠ مع استمرار التراجع أيضًا في تقديرات ٢٠١١ بسبب الأزمة المالية العالمية وتوابعها، فبلغ هذا الاستثمار نحو ١٢٤٤ مليار دولار في ٢٠١٠ بعد أن كان ١٩٧١ مليارا في ٢٠٠٧ و١٧٤٤ مليارا في ٢٠٠٨ و١١٨٥ مليارًا في ٢٠٠٩، ولكن الجديد في تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة هو ارتفاع نصيب مجموعة البلدان النامية إلى نحو ٥٢%، فالركود الذي اتسمت به الاقتصادات الغربية دفع المستثمرون إلى تحويل وجهة استثماراتهم، وشهدت دول شرق وجنوب شرقي آسيا ودول أمريكا اللاتينية نموٌّا قويٌّا في هذه التدفقات بمعدل ٣٤% و١٤% على التوالي، وجاءت الصين في المرتبة الثانية عالميا، إذ اجتذبت ١٠٦ مليارات دولار في ٢٠١٠ بعد الولايات المتحدة بينما جاءت السعودية في المرتبة الـ ١٢ عالميا، وعلى المستوى القطاعي ازداد نصيب الصناعة خاصة الصناعات التحويلية.

وشهد تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مجموعة البلدان العربية انخفاضًا في ٢٠١٠ إلى نحو ٦٦ مليار دولار بعد أن كان نحو ٧٦ مليارًا في ٢٠٠٩، ومثلت نسبة الدول العربية ٥,٣% من الإجمالي العالمي، و١١,٥% من إجمالي الدول النامية، واتسم تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى البلدان العربية في العقد الأخير بالتذبذب، ورغم تصدر السعودية قائمة البلدان العربية المستقبلة للاستثمار الأجنبي المباشر بحصة ٤٢,٥% من الإجمالي العربي رغم تراجعها ١٢% عن ٢٠٠٩، فإن وتيرة الاستثمارات الأجنبية بها قد هدأت في عدد من المشاريع النفطية الضخمة مثل ينبع وداو كيميكالز ورأس تنورة المتكامل.

كما تراجعت التدفقات إلى قطر بعد إتمام آخر محطة من محطات الغاز الطبيعي المسال، وكانت الإمارات قد شهدت هبوطا حادا في تدفق الاستثمارات إليها بسبب الأزمة الاقتصادية، وشهد تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى مجموعة البلدان العربية تراجعًا في ٢٠١١ نتيجة القلق بشأن عدم الاستقرار السياسي، وكما شهد تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل إلى البلدان العربية تراجعًا في ٢٠١٠ و٢٠١١ فإن الاتجاه نفسه تعرض له الاستثمار الأجنبي المباشر الصادر عن البلدان العربية، فهبط الاستثمار الصادر عن قطر من ١١,٦ مليار دولار في ٢٠٠٩ إلى ١,٨ مليار في ٢٠١٠، والكويت من ٨,٦ مليارات إلى ٢ مليار، والإمارات من ١٥,٨ مليار دولار في ٢٠٠٨ إلى ٢ مليار في ٢٠١٠، ويأتي هذا نتيجة نزوع الشركات المستثمرة إلى تجنب مخاطر الاستثمار في الخارج جراء الأزمة المالية العالمية والاضطرابات السياسية في عدد من البلدان العربية التي ألقت بظلالها على تقديرات تدفق الاستثمار الأجنبي الصادر عن البلدان العربية، الأمر الذي أكدته وكالات التصنيف الدولية؛ حيث خفضت تقييمها السيادي لـ ٨ دول عربية، ويأتي هذا مع الركود الذي تتعرض له الاقتصادات الغربية ليفاقم من إشكالية استثمار الفوائض النفطية؛ خاصة مع عودة أسعار النفط إلى الارتفاع.

ويبدو الخروج من هذه الإشكالية هو عن طريق زيادة الإنفاق الاستثماري الإقليمي، أي استحواذ منطقة مجلس التعاون الخليجي على النصيب الأكبر في التدفق الاستثماري الخليجي وإعادة الحيوية للمشروعات التي توقف تنفيذها حين اندلعت الأزمة المالية العالمية ومشروعات البنية الأساسية الرابطة بين دول المجلس كمشروع السكك الحديدية والشبكة الموحدة للغاز، فضلاً عن الاستثمار الاجتماعي كحل مشكلة الإسكان، والبدء بإعادة تأهيل الاقتصادات العربية التي أخذت تعود إلى حالة الاستقرار كتونس، مع تعزيز الاستثمار في المشروعات الزراعية في كل من السودان وتركيا التي تستهدف الأمن الغذائي الخليجي.































.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

الأعداد السابقة