وا أمــــــــــم متحداه!
 تاريخ النشر : الخميس ٢٣ فبراير ٢٠١٢
بقلم: د. جاسم بوعلاي
استعملت كل من روسيا والصين الفيتو لايقاف اعتماد مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة لمشروع القرار الذي كان من المؤمل ان يساهم في الحل الجذري للوضع المتردي في سوريا والمتصف بالعدد المتزايد من ضحاياه، ناهيك عن حدة وتنوع الأدوات الحربية المستعملة في المواجهات بالاضافة الى طول مدة الصراع التي شارفت على سنة كاملة بحالات مأساوية، وهكذا أضيفت سوريا الى عداد الدول العربية التي بدأ فيها ما يعرف بثورات او حركات الربيع العربي، تلك الظاهرة التي عرفت وشوهدت بداياتها ولم يمكن التكهن بالنهايات خصوصا في غياب بدائل واضحة موثوقة للنظم التي جوبهت بتلك الحركات والثورات، واذا ما أضيفت المصالح الاستراتيجية للتدخلات الخارجية المؤثرة منها فان التكهنات بالنتائج تزداد في ضبابيتها.
اللغة العربية افصحت في الدلالة عن مغزى الفيتو، فالترجمة العربية له هي حق النقض، وهو حق تعتبره الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا) مكسبا لها ويميزها عن الدول العشر الأخرى التي لا تتجاوز عضويتها السنتين.
وعليه فإذا تم طرح مشروع قرار على المجلس فإن معارضة أي من الدول الدائمة العضوية له تسقطه، على عكس معارضة أي دولة غير دائمة العضوية فيمكن ان تهزم تلك المعارضة بأغلبية أصوات موافقة للمشروع تضمن نجاحه. حق النقض هذا الذي تعتبره الدول الدائمة العضوية مكسبا له خلفية، اذ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي استعملت فيها أول مرة في تاريخ الحروب الأسلحة ذات الدمار الشامل والغازات السامة، تولد رأي عالي عام لم يقتصر على الاهتمام بالشئون الوطنية وإنما تعداه الى الشئون الدولية بعدما سمع الناس وشاهدوا هول الحرب العالمية المتمثل في عدد الضحايا والدمار الشامل، وبالتالي تم تشجيع انشاء منظمات دولية اساسها المنظمات الاقليمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكن على النمط الغربي بسبب تقدمه التكنولوجي الهائل صناعيا كان أم عسكريا على الرغم من ان هذا النمط الغربي ادى الى الهيمنة والاستعمار مع ان مدلول الاستعمار نظريا هو التعمير لكن عمليا يعني السيطرة.
بتصميم دولي وراءه رأي عام عالمي تم إنشاء ما يعرف بالمنظمة السياسية الأم التي سبقت المنظمة الحالية في نيويورك وعرفت بعصبة الأمم المتحدة بغرض واضح هو خلق السبل الكفيلة بمنع نشوب حرب عالمية أخرى بعدما رأى العالم هول الحرب الأولى التي وقعت عام ١٩١٤ لكن ما هو معروف فان حربا عالمية ثانية حدثت في ١٩٣٩، وكانت اشد ضراوة من الأولى، وهذا بالطبع أدى على الصعيد السلمي الى عدم فعالية منظمة عصبة الأمم التي كانت فيها جمعية عامة كهيكل رئيسي وعليه فقد فكرت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في انشاء منظمة جديدة يضاف اليها مجلس للأمن حتى يضمنوا عدم وقوع حرب اخرى لكن لزيادة ذلك الضمان أو لاعطاء أنفسهم جائزة الانتصار في الحرب فقد اشترطوا ان تكون لهم ديمومة العضوية في المجلس، مضاف إليها حق نقض أي قرار يعرض عليه على ألا تعطى ديمومة العضوية ولا حق النقض للأعضاء العشرة الباقين غير دائمي العضوية.
هذا التفريق في العضوية بين الأعضاء في المجلس الواحد، خمسة مميزون وعشرة غير ذلك، انعكس بطبيعة الحال على عمل المجلس ونتائج ذلك العمل، وتلاحَظ الهيمنة الغربية هنا أيضا واضحة إذ من بين الخمسة إلى أعضاء دائمي العضوية يحظى الغرب بثلاثة منها، وهذا توزيع غير عادل بالنسبة للمجموعات الجغرافية الخمس المعتمدة في منظمة الامم المتحدة (آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأوروبا الغربية شاملة أمريكا وكندا). و الذي يملك حق النقض (الفيتو) ويمثل بلاده في مجلس الأمن الدولي يتسلم تعليمات من بلاده بالنسبة لبحث البنود الواردة على جدول اعمال المجلس واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها.
هذه التعليمات لابد ان تكون مبنية على المصالح الوطنية لتلك البلاد، وهنا يشم شيء من التناقض، فكيف يعمل الانسان في محفل دولي ليناقش قضايا تتعلق بالسلم والأمن الدوليين ويطبق في نفس الوقت مصالح بلاده التي هي بالضروة غير متطابقة مع المسائل الدولية والتي لابد أن تتصف بالشمولية وتتعدى المصالح الوطنية والاقليمية. لذا يلاحظ ان الاعضاء العشرة غير الدائمين في المجلس هم اقرب الى اعتماد وتطبيق الشرعية الدولية في مداولاتهم خلال تناولهم المواضيع المطروحة.
المشكلة ان المصالح الفردية للدول الدائمة العضوية في مجلس الامن امتدت من الذراع السياسية في منظمة الأمم المتحدة الى النواحي الاقتصادية والاجتماعية من عمل المنظمة التي هي من اختصاص المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لنفس المنظمة الذي يسيطر على جميع المنظمات المتخصصة التي تتمركز في جنيف وفيينا وروما وباريس وتورونتو ولندن (يلاحظ حصول الدول الغربية على حصة الأسد من مقار تلك المنظمات والاستثناء هو جامعة الأمم المتحدة في طوكيو ومنظمة الامم المتحدة للبيئة في نيروبي)، وواضح الفوائد الاقتصادية والاجتماعية التي تجنيها الدول التي فيها المقار والأوضح الهيمنة الغربية على عمل المنظمة والسيطرة على مجرياته.
بعد ان اقتسم المنتصرون في الحرب العالمية الثانية فيما بينهم مختلف مناطق العالم سياسيا واقتصاديا برز خلاف بينهم سمته ايديولوجي نتج عنه انقسام العالم الشمالي الى معسكرين احدهما شرقي يتزعمه ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي ويضم في عضويته معظم الدول الأوروبية الشرقية بالاضافة الى الصين ويدين هذا المعسكر بالشيوعية نظرية وبالاشتراكية منهجا. يقابله في الطرف الآخر المعسكر الغربي ويضم دول غرب اوروبا بالاضافة الى الولايات المتحدة وكندا مختطا له الرأسمالية نظاما، وقد نشأ بين المعسكرين تنافس حاد على السيطرة على الشئون الدولية. هذا الوضع كون واقع ما كان يعرف بالحرب الباردة، وقد سميت بالباردة لخلوها من المواجهات العسكرية واعتمادها المواجهات الاعلامية والسياسية. اما ما تبقى من الدول الآسيوية والافريقية ودول امريكا اللاتينية فقد رأت أن لا مصلحة لها في هذا الصراع الشرقي الغربي فكون معظمها حركة عرفت بحركة عدم الانحياز.
رأت الأمم المتحدة في الحرب الباردة فرصة ذهبية للعب دور الحكم بالنسبة للصراع بين المعسكرين، وبالتالي سيطرت على الوضع الدولي نتيجة دورها التوسطي لأنه حتى بالنسبة لحق النقض في مجلس الأمن فقد توزع بين المعسكرين: اثنين للشرق وثلاثة للغرب.
هذا وقد ساعدت حركة عدم الانحياز على تثبيت دور الأمم المتحدة التوافقي، وفي تلك المرحلة لعب الأمناء العامون لمنظمة الأمم المتحدة، الذين أتوا أصلا من دول صغيرة محايدة، دورا بارزا في تمكين المنظمة من حل كثير من المشاكل والازمات العالمية حتى إن بعضهم فقد حياته في حادث طائرة وهو يؤدي عمله في التوسط لحل انفصال اقليم بيافرا عن الكونجو (السويدي داج همرشولد).
الصراع الذي دار بين المعسكرين الشرقي والغربي جاء تماما عكس فكرة انشاء منظمة الامم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. هذه الفكرة كانت أساسا تهدف الى مساعدة المنظمة الدولية على منع نشوب حرب عالمية اخرى، واذ نرى المنتصرين في الحرب يأخذون الاتجاه المعاكس لتطبيق الفكرة الأساسية بتقاسمهم تركة الحرب ودخولهم في منافسة للسيطرة والتأثير الاقليميين لما يجرانه من منافع اقتصادية ولكن في نفس الوقت من ويلات ناجمة عن صراعات وطنية وإقليمية.
انتهت الحرب الباردة واضمحل الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشرقي وسارعت الدول الاعضاء فيه إما الى اعتماد الاستقلال التام وإما الانضمام الى الاتحاد الاوروبي السائر في الفلك الغربي، وعليه فقد فقدَ التوازن الذي سعت الأمم المتحدة الى ايجاده بين المعسكرين المتنافسين والذي اكسبها الدور المميز، فقد أصبح هناك قطب مهيمن أوحد تنضوي تحت جناحه أقطاب أقل حجما وتأثيرا يحدده تبعيتها للقطب العالمي الوحيد وهو الولايات المتحدة الأمريكية التي ضمنت مع اتباعها مواصلة الهيمنة الغربية على الشئون الدولية، هذا وقد تمثل الاستقطاب الأوحد في عدة خطوات ضمن عمل الأمم المتحدة منها عدم التجديد لأحد الأمناء العامين لفترة ثانية واختيار أمين عام من دولة غير محايدة خرقا للعادة المتبعة واشراك المانيا في مداولات مجلس الأمن على الرغم من انها ليست عضوا فيه وتوج ذلك بهجوم دولة عضو في الأمم المتحدة على عضو اخر من دون تفويض من المنظمة الدولية لسببين رئيسيين ثبت بطلانهما فيما بعد الهجوم والاحتلال.
قرارات الجمعية العامة التي تضم في عضويتها جميع الدول الأعضاء في المنظمة الدولية غير ملزمة على عكس القرارات التي يتخذها مجلس الأمن فواجب على جميع الدول الأعضاء تطبيقها، وهنا يرى عدم العدالة وغياب الديمقراطية، فكيف يلزم (١٥) عضوا وبالتحديد (٥) اعضاء يملكون حق النقض (١٩٥) عضوا في المنظمة على تطبيق أمور لم يشترك الجميع لا في المداولات بشأنها ولا في اتخاذ القرارات الخاصة بها؟
تبرز في هذا الصدد ضرورة اصلاح مجلس الأمن ليكون اكثر عدالة وديمقراطية، وهذا موضوع قديم جديد يراوح محله حيث طرحت عدة حلول ومعادلات وأعداد رأت بعدها الدول الأعضاء الابقاء على الوضع الحالي الذي هو في الأساس تاريخي لا يصلح لعالم اليوم المتطور لكنه يخدم القطب الأوحد ومن يدور في فلكه، وعلى أي حال فإن أي مقترح للإصلاح سوف يفشل اذا تم استعمال حق النقض (الفيتو) بواسطة من لا يقره ومن يريد ان يتنازل عن حق اكتسبه يعطيه قوة وسيطرة، ولو خلق هذا الحق وضعا شاذا؟
الحل يكمن بداية في تعليق الفيتو أثناء عملية اتخاذ قرار بشأنه اذا تمت الموافقة على الحل قبل التصويت ويكاد يكون من المؤكد ان اتجاه الدول الأعضاء في المنظمة على طريق الحل هو الاستغناء الكلي عن الفيتو بالغائه، إذ لا يمكن للأمم المتحدة ان تعمل بنجاعة وفعالية في جو ديمقراطي مادام حق النقض يهدد قراراتها منذ عام ١٩٤٥ حتى يومنا هذا.
من هذا المنطلق وعودة إلى مشروع القرار بشأن الوضع في سوريا الذي أفشله الفيتو الروسي الصيني، فإن المعارضة الروسية على سبيل المثال ومن ضمنها المعارضة الصينية ربما تتركز على ممانعة روسيا ترك المجال للغرب ليأخذ زمام المبادرة كما حدث في ليبيا بعد تجاوز غربي، كما يدعي الروس، لقرار الأمم المتحدة الذي سمح للغرب بالتدخل العسكري لحماية المدنيين في الصراع وليس المشاركة فيه، اذاً في سوريا هل بسبب الممانعة الروسية الصينية لتدخل الغرب تحت غطاء الأمم المتحدة نترك السوريين يتقاتلون مع بعضهم بعضا منذ اكثر من ثمانية أشهر وبأسلحة فتاكة أمام عجز الأمم المتحدة عن التدخل لأسباب تتمحور حول المنافسة بين أعضاء مجلس الأمن مالكي حق النقض لأخذ زمام المبادرة لحل النزاع في سوريا؟
لا شك ان تلك المنافسة تخبئ بين طياتها مصالح سياسية واقتصادية للسيطرة الاقليمية، إذاً هل القضية السورية والقضايا الاخرى في المنطقة أو خارجها تحدد مسارها تلك المصالح؟ إذا كان كذلك فان المسارات تتجه عكس مبادئ وطرائق عمل منظمة الأمم المتحدة، وعلى هذا الأساس لن تتم تسوية قضايا النزاع وفق مبادئ الشرعية الدولية ولا طرائق المعالجة التي توصي بها.
من الواضح أن جل المشاكل تأتي من امتلاك بعض الدول لحق النقض، وبسببه تتم معالجة القضايا التي تعرض على الأمم المتحدة ليس على أساس دولي وإنما تبعا لمصالح الدول التي لديها الفيتو في مجلس الأمن الدولي، وهذا حول المعالجة أيضا عن اتباع أسلوب المفاوضات السياسية المبنية على الدبلوماسية الى الأسلوب العسكري ولنا في احتلال العراق عام ٢٠٠٣ خير مثل على ذلك اذ لم تلعب وزارة الخارجية دورا رئيسيا في ذلك الموضوع وإنما كانت وزارة الدفاع سيدة الموقف أولا وآخرا، وفي هذا عسكرة للقضايا الدولية بواسطة القطب الوحيد على الساحة الدولية.
* سفير البحرين الأسبق لدى الأمم المتحدة.
.