الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٩٣ - الاثنين ٢٧ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٥ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


عبدالحميد مهري.. جزائري لن تنساه العروبة





بداية لابد من توجيه التحية الى مجموعة العمل الوطني لمساندة فلسطين والعراق في المغرب وفي المقدمة منسقها الأخ المناضل خالد السفياني على هذه المبادرة الأخلاقية المميّزة بإقامة هذا الحفل التأبيني لشخصية جزائرية، مغاربية عربية، إسلامية مميّزة، هي المغفور له بإذن الله الراحل الأستاذ عبدالحميد مهري، فبمثل هذه المبادرة نكرّس وحدة الأمة وتواصل أحرارها وتوهج ذاكرتها على قاعدة أن أمة من دون ذاكرة هي أمة من دون مستقبل.

لم يكن ممكناً لنا في ربيع ١٩٩٧ أن نقنع الراحل الكبير عبدالحميد مهري بأن يوافق على ترشيح المؤتمر القومي العربي له إلى أمانته العامة في الدورة المنعقدة في الدار البيضاء آنذاك إلا حين قلنا له: «هل تعلم يا سي» عبدالحميد معنى أن ننتخب ونحن في المغرب جزائريا لهذا الموقع العربي القومي الشعبي البارز؟» يومها خضع مشكورا المناضل الكبير الذي أفنى عمره من اجل استقلال وطنه ووحدة أمته، بل من أجل أن يبقى جسراً بين أبناء الأمة وأفكارها، بين أجيالها وتياراتها، فكان واحداً من شخصيات عابرة للحدود والسدود، قابضة على جمر عروبتها وعقيدتها، مدافعة عن حقوق الأمة وعن حريات المواطنين في آن معاً.

لا تسمح كلمات معدودة مهما امتلكت من قدرة على التعبير أن تفي الرجل الكبير حقه، ولكن سأحاول من خلالها أن أتوقف أمام جملة سمات حملتها شخصية (أبي سهيل) طوال حياته.

كان عبدالحميد مهري ؟ رحمه الله ؟ رجل مبادئ وأخلاق، انطلاقاً من إدراكه العميق ان المبادئ هي الأخلاق في السياسة، والأخلاق هي المبادئ في العلاقات الإنسانية، لذلك كان مناضلاً أصيلاً صادقاً تكبر به المواقع والمناصب قبل أن يكبر بها، كما كان مدرسة وطنية وعربية وإسلامية تدرج في صفوفها مناضلون، وارتسمت عبرها مناهج لا تقوم شعوب وأمم من دونها. وحين نتحدث عن تلازم الأخلاق والمبادئ في سيرة راحلنا الكبير فلكي ندرك ان ما أصاب أمتنا، ويصيبها من محن وكوارث وعثرات، إنما كان ناجماً عن وهن في الأخلاق وضعف في المبادئ سادا حياتنا العربية المعاصرة.

كان عبدالحميد مهري رجل استقلال وحرية في آن، فلم يخطئ حين أدرك ان الاستقلال هو الطريق إلى الحرية، وان الحرية هي ضمانة الاستقلال وحصانته في آن، فكما خاض مع رفاقه وإخوانه غمار حرب التحرير الجزائرية بكل شجاعة وبسالة ووعي، خاض بعد الاستقلال معارك الدفاع عن حرية الجزائريين وحقوقهم في المشاركة في بناء وطنهم، فأستحق بذلك احترام جيلين من أبناء بلده: جيل الكفاح من أجل الاستقلال، وجيل النضال من أجل الديمقراطية والحرية.

كان راحلنا الكبير امتدادا حيا ومتجددا لأولئك الكبار من أبناء المغرب العربي الكبير الذين أسسوا لتلك الثلاثية الرائعة: وطنية متجذرة في الأرض، وعروبة متأصلة في الوجدان، وإسلام وارف الأغصان على امتداد الإنسانية كلها، فرفض المقايضة العليلة بين الوطنية والعروبة والإسلام، تماماً كما رفض أن يضع أيا منها في وجه الآخر، فكان «نهضويا» بامتياز لأنه كان رجل تكامل وتواصل وتراكم منطلقاً مما قاله يوماً شيخ كبير من بلاده هو الراحل الكبير عبدالحميد باديس:

شعب الجزائر مسلم والى العروبة ينتسب

ولأنه كان رجل تواصل وتكامل وتراكم، فقد شدّد على التركيز فيما يجمع في وطنه وأمته، والابتعاد عما يفرّق، مدركاً أن أبناء الأمة جميعاً، هم أبناء حضارة عربية وإسلامية واحدة، أسهم في تشييدها عرب، مسلمون وغير مسلمين، ومسلمون عرب وغير عرب، فأكد إنسانية العروبة في انفتاحها على من هو غير عربي، ووحدوية الإسلام الجامع بين أعراق ومذاهب وشعوب.

حين اضطربت حالته الصحية قبل أسابيع من رحيله الأليم، حرصت على رؤيته في المستشفى العسكري في الجزائر بصحبة نجليه العزيزين سهيل و«سهى»، وكم أحسست بالألم الخانق وأنا أراه ممدداً على السرير في غيبوبة طويلة وهو الذي لم يكن لحظة واحدة من حياته إلا شديد الحضور، متدفق الحيوية، سخي العطاء الفكري والسياسي والنضالي، وتألمت أكثر حين شعرت بأن الرجل يعاني ضيق تنفس، فيما أبناء أمته بدأوا يستعيدون أنفاسهم عبر صحوة، ولا أقول ثورة، شعبية نادرة أكدت وحدة الأمة كما حرية أبنائها، وتساءلت هل شعر الرجل الثمانيني بأنه قد رأى آماله في انتفاضة أبناء أمته تتحقق فقرر الرحيل، أم انه منح شباب أمته رئتيه الفسيحتين ليتنفسوا عبرهما هواء الحرية والكرامة مضحياً برئتيه العابقتين بالأمل والألم معاً؟

كان عبدالحميد مهري في آخر لقاء ضمنا في المؤتمر القومي العربي الأخير المنعقد في بيروت في أواخر شهر مايو المنصرم مسكوناً بالفرح والقلق معاً، الفرح بما أنجزه شباب الأمة من تحولات، وقلق من محاولات حثيثة لأعداء الأمة تهدف إلى اختراق هذه التحولات وتجويفها وحرفها عن مسارها الصحيح، وكان التدخل الأجنبي أكثر ما يخيف الرجل الذي أمضى عقوداً من عمره مناضلاً من اجل الاستقلال فكان يقول : حذار التدخل الاستعماري، فما دخل بلداً إلا وأفسده ودمره.

سيرة عبدالحميد مهري سيرة مليئة بالعبر، ويكفي أن تقرأها وتتعرف محطاتها حتى تشعر نفسك مزوداً برؤى وأفكار، وبصلابة في المضمون ومرونة في الأداء، بل بعزيمة لا تلين وبشكيمة تتكسر على صخورها كل المؤامرات والمخططات.

* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة