من مفكرة سفير عربي في اليابان
«الربيع العربي» والتاريخ الياباني (٢)
 تاريخ النشر : السبت ٣ مارس ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن
أدت تحديات العولمة السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، إلى انتفاضة عالمية في عام ٢٠١٠، بدأت بثورة الشاي من شوارع مدينة نيويورك، لتنتقل إلى الحرائق في مدينة لندن، ولتمتد للشرق الأوسط، لتؤدي إلى تغيرات في أنظمة الحكم الجمهورية، من تونس حتى اليمن، وبإصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية في الدول العربية، من الخليج حتى المملكة المغربية. وقد ربط الكثير من المفكرين هذه الانتفاضات بالتحديات الجديدة لمجتمعات العولمة الجديدة، وبتمكين الشباب، من خلال تكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت، التي وفرت بيئة لتبادل الأفكار، وتخطيط وتنظيم الاعتصامات والمظاهرات، وليتفاءل البعض ليطلق عليها ثورات الربيع العربي، ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ممكن أن تتطور المجتمعات العربية من دون توافر الأعمال ذات الإنتاجية المبدعة؟ وهل تعلم عزيزي القارئ أن الشعب الياباني يفضل العمل الخاص المبدع، على الوظيفة الروتينية، فهناك أكثر من خمسة ملايين شركة، لشعب سكانه ١٢٨ مليونا، نصفه أطفال، ومراهقون، ومسنون؟ وهل من الممكن الاستفادة من التجربة اليابانية لتطوير تجربة ما يسمى، الربيع العربي، وبأقل ما يمكن من الأضرار على الشعوب، واقتصاد بلدانها، وخاصة بعد أن بينت دراسة التاريخ أن الثورات والانتفاضات، مع الوقت، تأكل أطفالها؟ وهل سنشجع الشباب على العمل الخاص، ونوفر لهم الفرص لكي يناضلوا لإنشاء شركاتهم الصغيرة؟ أليس السبب الرئيسي لانتفاضة ما يسمى الربيع العربي، هو تحدي البطالة، التي تتجاوز ٤٠% بين شباب الوطن العربي؟
كتب الدبلوماسي، والشاعر العربي، نزار قباني، في قصيدته المشهورة «متى يعلنون وفاة العرب» يقول: «أنا منذ خمسين عاما.. أحاول رسم بلاد العرب.. رسمت بلون الشرايين حينا.. وحينا رسمت بلون الغضب.. وحين انتهى الرسم، سألت نفسي: إذا أعلنوا ذّات يوم وفاة العرب...ففي أي مقبرة يدفنون؟ ومن سوف يبكي عليهم؟ وليس لديهم بنات..وليس لديهم بنون.. وليس هنالك حزن، وليس هنالك من يحزنون.. رأيت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم.. ولكني.. ما رأيت العرب». لقد عاشت اليابان إرهاصات مماثلة للتاريخ العربي، فقد حارب البعض بشراسة لإفناء العرق الياباني، وقد أعلنوا، وبنشوة، وفاة اليابان، بعد إلقاء القنبلتين النوويتين، ومن دون إنذار. فلنكمل عزيزي القارئ دراسة التاريخ الياباني في القرنين التاسع عشر والعشرين، لنكتشف كيف أنقذ شعبها اليابان من الموت، لعلنا نستفيد للوقاية من إعلان وفاة العرب، وخاصة بعد انتفاضات، ما سمي، الربيع العربي.
في الثالث من شهر يناير ١٨٦٨، ألغي نظام أمراء الشوجن، وقام عساكر السموراي بتعزيز نظام الحكم الإمبراطوري، كما قووا سيطرتهم على الحكم في البلاد، وسمي الإمبراطور الجديد، الإمبراطور ماتسوهيتو. وكان شابا، لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وعين، بعد وفاة والده بطريقة غامضة، بعد أن اتهمت بعض العناصر المناوئة بتسميمه. وقد بدأت خلايا المقاومة ضد التغير الجديد، وأصبحت مدينة إيدو مركز المقاومة ضد الإمبراطور، كما استقر الزعيم المعارض، أنوموتو تاكاكي، في مقاطعة هوكايدو التي قطنتها قبيلة الإينو المنبوذة، ليقيد المقاومة، وحاول إعلان جمهورية جديدة منفصلة، وقد حصل الاعتراف من الأمريكيين، ولكن انتهت محاولته بالفشل. وفي عهد الإمبراطور الجديد، ماتسوهيتو، الذي سمي عهد ميجي (١٨٦٧-١٩١٢)، والتي تعني عهد التنوير، برزت اليابان كأمة قوية، بعد أن كانت حين ولادته في عام ١٨٥٢، بلدا معزولا ومتخلفا، وبنظام إقطاعي بدائي، وبه ٢٥٠ مقاطعة متحاربة، وتحت سيطرة عساكر الشوجن، لتتحول اليابان بقيادته، وبثورتها الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية، إلى قوة عظمى، ولتصبح حين وفاته دولة موحدة ومزدهرة. فقد أنهى عهد ميجي نظام الإقطاع، وألغيت طبقة العسكر السموراي، وشكلت حكومة مركزية قوية، لتبدأ التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية، كما طورت الحياة السياسية بعد أن طالب الشعب الياباني ببرلمان حر منتخب، وفعلا تم إعلان الإمبراطور برلمانا بمجلسين، مجلس نواب منتخب، ومجلس نبلاء معين من قبل جلالة الإمبراطور. وفي عام ١٨٨١ أنشئ الحزب الديمقراطي الليبرالي، وتلاه بعد عام، إنشاء حزب الإصلاح الدستوري، لتبدأ اتهامات المعارضة للحكومة بإبقاء السلطة المطلقة في يدها، وباسم الامبراطور. واستمر الشعب الياباني العمل بجد واجتهاد، وسجل انتصارات كبيره في الإنتاج، واشتدت المنافسة مع الغرب. وفي عام ١٩٠٩ كتب المفكر الياباني، سورو كارا، نقدا لمحاولة اليابان التحول إلى دولة عظمى، فقال: «انظروا لليابان.. تحاول جاهدة أن تشق طريقها لتكون قوة عالمية، فهي كضفدعة تحاول أن تنمو لتصبح بحجم البقرة، وطبعا ستنفجر، هذا الصراع يؤذيني ويؤذيك، فليس هناك وقت للاسترخاء». والسؤال المحير: هل فعلا ستنفجر اليابان؟
لقد خلف الإمبراطور يوشيهوتو والده في عام ١٩١٢، بعد موته من أختلاطات مرض السكري. ولم يكن الإمبراطور الجديد بصحة جيدة، فقد أصيب بالتهاب السحايا في صغره، وكان دائم المرض، وساءت حالته، ولم يتمكن تحمل مسؤوليات القصر الإمبراطوري، فتسلم ابنه هيروهيتو الحكم في عام ١٩٢١، وليتوج إمبراطورا بعد وفاة والده في عام .١٩٢٦ وقد سمي عهد الإمبراطور الجديد عهد السلم المجيد، ولكنه كان في الحقيقة حقبة حروب متتالية، فقد وافقت اليابان على أن تكون حليفة بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، ولكن لم يكن لها دور يذكر في الحرب، فاستغلت الفرصة بانشغال الحلفاء بالحرب، لتغزو الأجزاء المحتلة من قبل ألمانيا من الصين، والجزر المحتلة في المحيط الهادي. وقد كانت فترة انشغال الحلفاء بالحرب فرصة لنمو الاقتصاد الياباني، وبعد انتهاء الحرب تدهور الاقتصاد الياباني، وزادت النقمة ضد فساد، ما سمي الديمقراطية الغربية في اليابان، كما دعي العسكر للتوسع في الدول المجاورة، لتوفير الموارد الطبيعية اللازمة. ففي عام ١٩٣١ فجر الجيش الياباني حافلة قطار، واتهموا الصينيين، ليقووا قبضتهم على منشوريا الصينية، فسيطر العسكر على البلاد، ومن دون رقيب، مبررين تسلطهم لحماية اليابان من المستشارين الشياطين، الذين يحومون حول الإمبراطور، ولإنقاذ البلاد من السيطرة الغربية الفاسدة، حيث كانوا يؤمنون بأن الإمبراطور يجسد الإله، وهو سليل إلهة الشمس، أماتراسو، وشعب اليابان أبناء الإلهة، كما أن أرضها هي أرض الآلهة.
وقد بدأت ظهور أفكار فلسفية، لتبرير التوسع، لحل مشكلة التزايد السكاني، حيث لم يسمح الغرب لليابانيين بالهجرة أو المتاجرة في السوق الدولية، كما اعتقد البعض بضرورة الحرب لتخليص العالم من السيطرة الغربية، وبالأخص الأمريكيون. وقد تأثر بعض المسئولين من أراء راهب بوذي عاش في القرون الوسطى، سمي نشيرين، الذي نادى بالحرب العظيمة، لإنهاء جميع حروب المستقبل، كما أكدوا بضرورة حاجة اليابان للموارد الطبيعية، المتوافرة في الدول المجاورة، لتستطيع الاستعداد لهذه الحرب العظيمة مع الولايات المتحدة، بالرغم من أن الكثير من اليابانيين كانوا يعتقدون ضرورة استخدام الطرق السلمية، لقيادة الدول الآسيوية نحو مجابهة السيطرة الغربية في المنطقة. وقد برزت اليابان وبنجاح عام ١٩٣٦ بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة، ولكن تبعتها عدة أزمات أخرى، فقد كان دخل معظم أفراد الشعب محدودا جدا، بينما كانت فئة صغيرة تستمتع بثراء فاحش، كما أن الزيادة السكانية أبرزت مشاكل أضافية معقدة. وأدى التقدم الصناعي إلى تقوية سيطرة الحكومة على المصانع والشركات، فعملت على فرض إرادتها، وحاولت التخلص من المنافسة الغربية، كما قوت سيطرة العسكر ضمن الحكومة. وفي عام ١٩٣٦، وقعت اليابان اتفاقية مع ألمانيا وايطاليا، لتبادل المعلومات حول تحركات السوفيت، ودخلت اليابان في عام ١٩٣٧ حرب ناجحة ضد الصين، بعد حادثة جسر ماركوبولو المصطنعة.
وفي عام ١٩٤٠ وقعت اليابان معاهدة دفاعية مع ألمانيا وايطاليا ضد أي اعتداء أمريكي، مع التأكيد بدعم اليابان في قيادة منطقة شرق آسيا. وقد شجع ذلك اليابان على غزو الجزء المحتل من فرنسا في الهند الصينية، مما أدى إلى فرض الولايات المتحدة الحظر على تصدير النفط، والحديد، وبعض المواد الضرورية الأخرى، لليابان. وفي عام ١٩٤١ وبعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي، توغلت اليابان في الهند الصينية، فقامت الولايات المتحدة بتجميد جميع ممتلكات اليابان في أمريكا، ومنعت أي بضاعة أمريكية من دخول اليابان، كما قرر الرئيس روزفلت، وبصفة غير رسمية، قصف المصانع اليابانية لتدمير آلية الصناعة الحربية. وتحت ضغوط نقص الطاقة في البلاد، وعدم توافر الموارد الطبيعية، قررت اليابان الانسحاب من الهند الصينية، ولكن أصرت الولايات المتحدة على ضرورة الانسحاب من الصين أيضا، فلم يجد اليابانيون إمامهم إلا خيار الحرب، بعد أن توقعت اليابان النصر، كانتصارها من قبل على السوفيت، لتمنع السيطرة والتوسع الأمريكيين في المنطقة.
وفي السابع من ديسمبر ١٩٤١ بدأت اليابان الحرب بضرب الجيش البريطاني في كتو بورا بدولة «مالي»، وتبعتها بعد تسعين دقيقة ضرب الأسطول الأمريكي «ببيرل هاربر»، الذي أدى إلى جرح وقتل مئات الأمريكيين، وتدمير جزء كبير من أسطولهم وطائراتهم الحربية. واستمرت اليابان في غزوها بالتالي للفلبين، وتايلاند، وجوا، وهنكونغ، وبرنو، وسنغافورة، وسومطرا، وتيمور، وبالي، وباتافيا، وروجن، وجاوا. وفي السابع من شهر مايو عام ١٩٤٢، هزمت اليابان أول مرة في معركة بحر الكورال، لتستمر الهزائم متتالية مع بدء معركة الميدوي، لتقرر اليابان وقف مخططاتها لغزو كلدونيا الجديدة، وفيجي، وسامو، واستراليا، ونيوزيلندا. وفي الخامس عشر من أكتوبر عام ١٩٤٤، انهزمت اليابان في معركة «ليت» في الفلبين، مع خسارة كبيرة في أسطولها الحربي، بالرغم من استخدامها الطائرات الانتحارية بطياري «رياح الإله»، الكاماكيز.
وفي اليوم العاشر من شهر مارس عام ١٩٤٥، بدأ الأمريكيون الهجوم على المدن اليابانية، وعلى رأسها مدينة طوكيو، مما نتج عن ذلك قتل مئات الآلاف من المواطنين اليابانيين، وفقدان الملايين سكناهم، لتتحول المدن اليابانية إلى أراض محروقة، كما غزا الأمريكيون جزيرة اوكيناوا اليابانية. وفي يوم الخامس من أغسطس عام ١٩٤٥ ألقت الولايات المتحدة القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما، وتلتها بقنبلة أخرى على مدينة نجازاكي يوم التاسع من الشهر نفسه، مما أدى باليابان إلى الاستسلام ومن دون شروط.
فتلاحظ عزيزي القارئ كيف حاولت اليابان منع التسلط الغربي على منطقة شرق آسيا، كما حاولت توحيد المنطقة تحت قيادتها، وتصورت أن غزو جيرانها، والسيطرة على مواردهم الطبيعية، سيؤديان إلى انتصارها في معركتها مع الغرب، ولكن، كما قال رون فون عن سياسات بسمارك في توحيد ألمانيا وانتهائها بدمار الحرب، بأن: «لا أحد يأكل من شجرة اللاأخلاقيات من دون حصانة». فهل سيتعلم العرب من دروس التاريخ؟ ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين باليابان
.