الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٠٢ - الأربعاء ٧ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ١٤ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


الطائفية بديل «للوطنية».. خطاب قاتم للعراق القادم!





إن مجمل ما أردت استعراضه حول الواقع العراقي كما أراه ضمنته بإيجاز في النقاط التالية:

أولا : إن العملية السياسية القائمة هي عملية غير وطنية لأنها أساسا تكونت على أسس المحاصصة الطائفية والعرقية التي احتسب فيها الاحتلال ان نظام البعث استقطب السنة وان الشيعة والأكراد هم الأصدقاء الذين يعتمد عليهم في إسناد مشروع تحرير العراق لرفع مظلوميتهم، وعلى هذا الأساس تم الإقرار بالفيدرالية في دستور الاحتلال وتضمين الدستور نصوصا وحقوقا تضمن -فيما يعتقدون - ضمانا لمطالب الشيعة والأكراد ومنها قضية الأقاليم كضمانة للتقسيم تحت مبرر الخوف من سلطة السنة، لكن الأمريكان كانوا مخطئين فيما افترضوه سواء كانوا واهمين أو متقصدين وقد أوقعوا الساسة السنة والشيعة في تبادل الأدوار بخطاب الأقاليم بالوعود والترغيب والترهيب عندما أقنعوهم بقبول دستور كتب بطريقة خبيثة لا يمكن أن يعدل بها هذا الدستور وباعتراف كل الساسة الذين اقروه بعدئذ حتى أصبح وبالا وطامة كبرى جاءت بكل المصائب والويلات اللاحقة.

ثانيا: ولئن الاستقطاب الطائفي والعرقي بعد الاحتلال اتخذ طابعا سياسيا لأحزاب وتجمعات ذات صلة بالفكر والثورة الإسلاميين في إيران تصرفت هذه الأحزاب بنهج طائفي وانتقامي فيه نوع من المكر والدهاء للهيمنة على السلطة والقبول بواقع الاحتلال واحتواء سلوكاته، وانحدر حتى ساسة وقيادات الأحزاب العلمانية كالحزب الشيوعي العراقي في الاصطفاف مع هذا الاستقطاب الطائفي المناقض لثوابت فكرهم، فيما انقسم الساسة السنة بردود فعل متفاوتة وفقا لأفكار وانتماءات تاريخ سياسي طويل مشحون بالخلاف لم تكن الساحة الشيعية خاضعة له بسبب درس قاس بليغ من الماضي جابهته بعد تأسيس الدولة العراقية مما سهل عملية احتواء الشيعة لطروحات الإسلاميين الشيعة السياسية والقبول والمهادنة بحالة الاحتلال خوفا من أن يقعوا بما حسبوه موقفا خاطئا وقعوا فيه على حد زعمهم يجب ألا يتكرر، وتعامل الساسة السنة وفقا لحواضنهم الفكرية بين مقاوم ومعارض للاحتلال كواجب وطني وشرعي، وبين مشارك ومندفع للدخول في العملية السياسية قبل فوات الأوان وتحصيل ما يمكن أن يحصل عليه في ظل الاحتلال بدلا من إفراغ الساحة للطرف الثاني، وهكذا استطاع الأمريكان احتواء أطراف عملية سياسية من أشخاص وتنظيمات بالمشاركة فيها بدوافع ونزعات مختلفة ومتناقضة بغطاء الشراكة الوطنية الزائف.

ثالثا: لكن المسيرة السياسية اللاحقة وعلى مدى ثماني سنوات وبسبب قوانين بريمر وأوامره وبتأييد من الأكراد والأحزاب الدينية التي شاركت في العملية السياسية وبسبب الدستور الخائب وغياب الثوابت الوطنية بدولة احتلال ، أثبتت بما لا يقبل الشك ان المشاركة في هذه العملية السياسية تحت أي واجهة كانت خطئا كبيرين وان الموافقة على حل الجيش والاجتثاث الفكري ودستور بريمر المؤقت والدائم هي التي أوقعت كل الأطراف وبضمنها دول الاحتلال في مطبَّات الفشل والإخفاق ومن ثم في منزلقات الفساد والمصالح.

رابعا: خلال هذه السنوات كانت هيمنة نظام إيران الحاكم تنفذ بشكل منظم وخبيث وتتفاقم حتى أصبح الجميع على قناعة تامة بأن إيران هي الدولة الوحيدة المستفيدة والنافذة على السلطة، ومن المؤكد أن دوافع هذه الدولة سواء كانت طائفية دينية أو عنصرية فارسية بما تهيمن عليه من قدرات وطاقات ومنافع وأتباع بعد الاحتلال قد أهلتها لهذين النفوذ والاختراق الفاعلين في العراق في وقت فيه موقف النظام العربي والإقليمي الحاكم موقف خجول ومحكوم بأجندات دول الاحتلال ومخططاتها خوفا وجبنا.

خامسا: أدت حالة عدم التوازن السياسي هذه وعدم التوافق على اهمية المشروع السياسي الوطني المناهض للاحتلال والمعارض للمشاركة في العملية السياسية على مبدئية رفض الاحتلال الى عدم استطاعة الساسة السنة الانضواء تحت مشروع يمكن اعتباره وطنيا بسبب وجود الاحتلال وهيمنته وبسبب تصاعد العمل المقاوم المسلح من إيجاد قاعدة بديلة بساسة أكفاء وبثوابت وطنية لتكون معارضة قوية أو إصلاحية فاعلة، وانتهت تشكيلاتهم السياسية بائتلافات واهمة وشعارات فارغة وانقسامات شخصية ومصلحية متناقضة الى ما انتهت إليه اليوم.

سادسا: إن أخطر ما سيصيب العراقيين من أضرار ومخاطر هو عملية تبرير الساسة الحاليين لفشلهم الذريع بالتبرير الطائفي حين ينشط اليوم ساسة السنة والشيعة بمظهر حماة المذهب والخوف من انقراض السنة أو انفلات السلطة من الشيعة لأن هذا التقمص في ظل حالة عدم التوازن الموجودة حاليا في أجهزة الأمن والجيش والإعلام والمال والنفوذ الإقليمي ولسنوات الاحتلال التي مضت وبما يبدو كأنه حلول كما مرر الدستور والاتفاقية الأمنية وحكومات الشراكة والانتخابات الزائفة ومشروع الصحوات لا تشكل إلا وسائل قوة ومشروعية لحالة عدم التوازن لصالح القوة المتسلطة والمهيمنة وهي إيران وأذنابها بالساحة، وتحت شعار فشل الساسة اللاعبين اليوم في سلطة الشراكة والعملية السياسية في تحقيق ما هو مطلوب منهم لتحقيق أي انجازات لناخبيهم وتحقيق أي تغيير يتراكض عدد كبير من الشخوص المجربة والجديدة لتشكيل كيانات سياسية بديلة وبخطابات فئوية وطائفية لحشر نفسها والاعداد لمرحلة الانتخابات القادمة من دون أي اعتبار للفشل الجذري والكلي لهذه العملية السياسية المنهارة كأن البدلاء الجدد يشكلون حلا لأسسها الواهنة وتشريعاتها الخاطئة أو الشعب والمكونات التي يدعي أصحاب هذه المشاريع تمثيلها غافلة او ساذجة ومؤهلة للوقوع بالخطأ الذي وقعت فيه لتستمر مأساة ومهزلة الانتخابات والمحاصصة الطائفية والفساد والتهميش سنين عديدة قادمة.

سابعا: لهذا السبب وعلى السياق نفسه فان أي انحراف بالمشروع الوطني المقاوم والمناهض إلى مشروع طائفي أو تقسيمي هو أمر خطر وهو ما يجعلنا نسمع اليوم أصواتا تطبل له وتهلل كأنه مشروع إنقاذ، بدأنا نهلل للأقاليم وهي ضمن واقع الحال العراقية الراهنة لا يمكن أن تكون إلا طائفية وعرقية، وبدأنا نندرج في صيحات المصالحة ونزع سلاح المقاومة بدعوى خروج المحتل فيما المحتلان الأمريكي والإيراني موجودان في الساحة بكل أشكالهما وتصريحات اوباما وسفارته وتصريحات سليماني في محاضرة له خطرة في طهران واضحة واستيقظنا نسمع صيحات قيادات محسوبة على المقاومة تتبنى سياسة الأقاليم، وهذا تناقض مبدئي وفكري واضح فيما أصبح القول ان السنة وحدهم هم المعارضون والمقاومون وستنقرض طائفتهم ان لم يجدوا لهم من خطاب سياسي بديل وتجمع قوي داخل هذه العملية السياسية، وهذا الخطاب فيه تجن واضح وصريح لمنطق المواطنة والوطنية إذ من الواضح ان الوطنية ليست ملكا لطائفة ولا دين وان حالة الدمار والعنف والقتل والاجتثاث والتضحيات حالة عامة وشاملة عمت حالة الاستقطاب الطائفي السياسي الواهمة والمصالح الشخصية والفساد الشائع التي اصبح كلا الطرفين سنة وشيعة من الساسة الفاسدين غارقين فيها بلا خجل او تردد.

ثامنا: إن هذا التخندق الطائفي سيؤدي عاجلا أو آجلا الى صدام بين مكونات الشعب الواحد وسيكون هذه المرة كارثيا على الجميع لحجم الآلة العسكرية المكدسة في هذه المنطقة وللحقد القائم والتشظي الحاصل بين مكونات هذا الشعب الذي كرسته أدبيات وثقافة الحقد الطائفي والعرقي والديني، ولا ننسى العامل الخارجي الذي ينتظر هذه اللحظة ببالغ الصبر ليحقق مآربه في هذه المنطقة لأنها تمثل عصب الحياة لصناعاته وخاصة النفط ومشتقاته وبقية الخيرات، وعلينا ان نتفحص نتائج ومسيرة ما نسميه الربيع العربي الذي يتمخض بعد احتوائه عن تشبث الشعوب بالنجدة من هذه الدول لتخليصها من العصابات الطائفية والعرقية والدينية التي أتت على الأخضر واليابس كما حصل مؤخرا في ليبيا ويحصل الآن في سوريا في طريق العودة ثانية إلى الحماية كما حصل عقب الحربين الأولى والثانية، وعلى نهج ما حصل في العراق من خلال الاستعانة بالأجنبي لإسقاط النظام وما سيحصل لو عدنا من اجل التغيير الى حاضنة الاستنجاد به ثانية من خسارة جماعية في الأرواح والممتلكات والسيادة إن وجدت.

إن عودة الساسة والحكماء والوطنيين وحملة العلم والكفاءة والنزاهة والخبرة والسيرة الحميدة والرموز التاريخية الوطنية والشباب الواعي الناهض، بكل توجهاتهم وعلى اختلاف فكرهم وتطلعاتهم إلى ضمائرهم وعقولهم بعيدا عن تأثير الطائفية المتحجرة والممزقة التي تعشش في كهوف مظلمة وعدم الانضواء تحت مظلة السياسيين والحكام الانتهازيين الذين يعيشون على أكتاف الآخرين، والعمل بجد وإخلاص على تقليص مساحات الاختلاف وتوسيع مساحات الالتقاء وهي كثيرة ومتنوعة ومنها القومية والدين والمعايشة التي تربط مكونات شعبنا منذ ألوف السنين والنهوض بمشروع عراقي وطني واسع وموحد وجامع ومحرر ومناهض، هو الحل الوحيد لأزمة العراق الراهنة والمصيرية والبديل الوحيد تسلم سلطة وطنية تطيح بالفاسدين والتقسيميين والطائفيين وأذناب الاحتلال ووكلائه.

تاسعا: إن الحراك الشعبي الوطني وإسقاط مشروعية العملية السياسية الزائفة على الأسس الوطنية المذكورة أعلاه ونشاطات هذا الحراك السلمية من تظاهرات وعصيان مدني ومسيرات واحتجاجات والإعلام المناهض بعيدا عن الاختراقات الحزبية الضيقة وبشمولية وقواعد واسعة تشكل عناصر تغيير مضمونة النتائج.

عاشرا: ان المقاومة الوطنية التي تستهدف الوجود الاجنبي وعناصر ونشاطات خلايا الاحتلال وعناصره ومخابراته وشركاته أمر لابد منه لتحقيق الهزيمة الكاملة بالاحتلال ووجوده، فلقد أرغمت هذه المقاومة المحتلين على تحمل أعباء إفشال مشروعهم التوسعي بانسحاب عسكري غير متوقع حاولت تبريره لصالح شركائها بلا جدوى وستبقى هذه المقاومة عاملا حاسما في انجاز مهمة التحرير الكامل والشامل من التبعية الأجنبية لو انها سلمت من دسائس ومخططات الساسة الفاسدين للنيل منها وإعادة محاولات جديدة كمحاولة الصحوات اللئيمة وما أنجزته للمحتل من مقاصد وما جنته على نفسها وعلى أهلها من خيبات.

ختاما: إن الاستمرار بهذه العملية السياسية القائمة وتشريعاتها ومؤسساتها وأسسها الواهنة واستمرار هيمنة الاحتلال الذي أسسها والنفوذ الأجنبي الذي عشش في العراق بمظلتها، يشكل جريمة كبيرة بحق الشعب العراقي ومستقبل أجياله وهويته وكرامته وثروته، وإن استمرار أي جهد أو نهج مستقبلي لترسيخ هذه العملية هو تسويف للزمن على حساب إحباط واستمرار مأساة العراق وانهياره، والحل الجذري يكمن في تعزيز جميع الوسائل المتاحة للخلاص من شرورها من خلال مشروع وطني جامع وناهض يحقق طموح الشعب العراقي لإعادة العراق لكامل سيادته وهويته.

( المقال نص لكلمة القيت في مجلس مختصر بسكن د.عدنان الدليمي في عمان بناء على دعوته في حوار حول الفيدرالية والواقع العراقي، يناير ٢٠١٢).

* كاتب وسياسي عراقي



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة