حلقات فارغة في تقرير المصير
 تاريخ النشر : الخميس ٨ مارس ٢٠١٢
بقلم: الشيخ د. عبدالله المقابي
المغردون خارج السرب كُثر وهم داخله أكثر، المساومون على إعاقة مسيرة الإصلاح والتقدم طلائع وهم من الداخل طليعة واحدة تفخر بوجودها من دون أن تحقق وجوداً، فالحماقة في تفسير المواقف إحدى الحماقات التي ترتكبها خطوات العقل المُنغلق حين يشتهي الخروج لمعنى الخروج لا معنى تحقيق المخرج، وهوس القيادة قاده إلى النزول في الشارع أعمى يفقد البصيرة في التطلع ويرصد المسيرة عاجزاً يتخلق، هكذا يمكن وصف حال واحدة من الحلقات الفارغة في تقرر المصير، مصير فرد أم مصير أمة، أم مصير طائفة، فما بال المحنك أن يعي لمصير وطن؟
مسلسل إثبات الذات وهوس الأكثرية وألم سماع الصوت المختلف يجرح الشعور التالف الخاوي من الحس الوطني والشعور بالمسئولية، لما لهذا المسلسل من أثر تدميري يحيط بالوطن ويستهدف أطياف الشعب باسم الأكثرية، فيجب ألا ننخدع بسحر الإرادة بصبغة الدين لأنها ليست إرادة دينية، بل هي إرادة فتنةُ على حساب الشعب الواحد.
عام مضى منذ اندلاع الأحداث المؤسفة وما خلفته من أضرار تعدت حدود البحرين وتفاقمت وتسربت لدول الخليج، وأضرار بشرية مؤلمة خطفت شُبانا في ريعان شبابهم، انتهاكات حقوقية وأخرى سياسية، جروح وطنية ومعارضة مأزومة، تآمر على الوطن داخليا وخارجيا، استهداف نظام الحكم، تطهير الروح الريادية المعطاء من الأخلاق والبناء لصالح الرثة والذلة والمهانة، كل ذلك ما أنجح شعار الإصلاح، كل ذلك ما أحرج نخوة الحمية الوطنية لتكون صالحة لبناء الوطن، وردا على مقولة تخرج الآلاف بصورة لا معقولة في ردة فعل لا تتساوى وحجم الفعل ذاته، فلكلمة صاحب الجلالة الملك المفدى أبعاد عدة خارجة عن أطر الفهم الضيّق الذي فهمه الفقيه ودعت إليه ولاية الفقيه بعين لا تنكسر من ضرورة الخروج بمسيرة الجمعة كواجب عيني (الجهاد) مما يفصل المنطق عن العقل ويفصل الفهم عن سعة الأفق والروية، فكثيرا ما يقع العقلاء والمفكرون في شرك ضحالة الفكر لوجود البرمجة السلبية، فنحن نرى العالم طبقاً لبرمجتنا السابقة فقط، نرى العالم لا كما يجب أن نراه ونفهم الأشياء لا كما يجب أن تُفهم، فنحن لا نرى الحقيقة إلا من خلال تجاربنا الماضية، وطبقاً لما مر تبدأ العقول بالتصرف والحكم على الأمور باستتباع التجربة السابقة أو الفهم المغلق لنقوم بالفعل حكما وعملا من دون تدقيق أو ملاحظة إذا ما كانت صحيحة أم لا ومن دون القدرة على تدارك النتيجة التي نحن فيها، إذ من المُسلم الوصول إلى النتيجة قبل التأكد من النتيجة وهي صورة فعلية خاصة بالعقل البشري لوجود الروابط والدلالات المتواصلة، وهنا يأتي دور الإدراك الذي يُقيّد استتباع الفعل بالنتائج السابقة ويُوقف استمرار الأخذ بالنتائج من دون الأسباب.
ماذا يرون دون ما نرى؟ عمليا تُسمى الهيمنة الفكرية (وصاية)، فهي رجوع بالناس إجباراً واستعلاءً إلى نقطة الاستبداد الداخلي، والانقياد إلى هالة التطرف أو (كاريزما) الصوت الواحد، والخوض في متاهة الانقياد أن يقود الشارع إلى مزيد من التطرف والطأفنة باسم الدين، فهي عملية فرز إجباري لمن يرى بعين الله، ولم يبق للمختار من خيار إلا الخروج بحالة التسليم لقلة الحيلة وسوء التدبير، والمُقدس هي الهالة المعصومة عن الخطأ والآلة المدبرة لشئون الآلهة في صفوف المستمعين، اختلال في النظر وتصادم في المبدأ واختلاف في الرؤية هم ما يعجزون عن مصادمة من يمارس الوصاية من نفسه، مسير أو طريق يسير فيه الإنسان فيؤدي بالتالي إلى تجميد قيمته العقلية، وقف للعقل والفكر والوعي والإدراك، وعدم القدرة على التحرك والنقد أو التحليل، تكبيل كل خطوة شخصية لمصالح الخطوات المُشخصة من فرد أعلى يستحوذ على عقول الناس، يسير بهم حيث يُريد من دون ان يكون لهم الحق في الرد والعد، عمليا من جهة أخرى مناقضة صريحة لمبدأ المحاسبة والمساءلة والمشاورة والمحاورة والمشاركة في تقرير المصير.
الشعب البحريني شعب واع يدرك أراجيف المرجفين الذين يريدون تحويل البلد إلى قطعان تجري خلفهم من أجل تحقيق مكاسبهم، فما يجري في الساحة المحلية لا يخدم الوطن في شيء ولن يصنع مستقبلاً ينتظره الجميع، وما يفعلون هو نقيض أقوالهم بما يعملون، فهم يرون ما لا نرى، ويعرفون ما لا نعرف، ويدركون ما لا ندرك، فيصبح قولهم وفعلهم وسكونهم وصمتهم وكلامهم في حكم المُجاب، وتصبح مسيرتهم الحياتية ثقلا تاريخيا محملا بالتمجيد والتحقيق والإنجاز والفكر والمنهج القويم، ومسلكهم هو الصراط المستقيم، وباقي الناس رعاع وقطيع خلفهم، والخارج عن امرهم كافر فاسق مارق تجب محاربته والتشهير به وقد يحل دمه.
إن لغة الوصاية اليوم لغة الفتك والتضليل، ونحن نقف ضد هذه اللغة ونشجب ونستنكر أشكال التطرف اللغوي كافة والتسبب في إثارة المزيد من الفتن، وندعو الشعب إلى الحرص على الوحدة والتسامح والتعلق بولاة أمرنا مليكنا حمد ورئيس وزرائنا خليفة وولي عهدنا سلمان وكفى، كفى بالوطن مدا وجزرا إلى مهاوي المهالك والغموض، وعلينا أن نفكر في الخروج لا الرجوع.
حمى الله البحرين من كل فتنة.
.