من مفكرة سفير عربي في اليابان
«الربيع العربي» والتناغم الياباني
 تاريخ النشر : السبت ١٠ مارس ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن
دخلت منطقة الشرق الأوسط، مع بدايات القرن الحادي والعشرين، في مرحلة جديدة من تطورها التاريخي، بعد ما عانت شعوب العالم عولمة الرأسمالية الفائقة، التي أدت لتباين الثراء، وارتفاع أسعار الحاجات الأساسية للإنسان، الذي سبب انتفاضات عام ٢٠١٠، لتمتد من مدينة نيويورك، إلى شوارع لندن، ولتشعل الانتفاضات الثورية، والإصلاحية، لما سمي الربيع العربي. وقد تبين، منذ بدء هذه الانتفاضات، أن طريق الإصلاح ليس سهلا، ويحتاج لحكمة التناغم بين أفراد الوطن الواحد، في عملهم الجاد وبإخلاص، مع احترام الوقت في إنتاجية مبدعة، وتجنب التركيز في الأنانية الشخصية. وسنحاول عزيزي القارئ الاستفادة من التجربة اليابانية في محاولة لاختيار طريق، يجنب شعوب المنطقة إرهاصات ما بعد هذه الانتفاضات.
عانت اليابان في القرون الوسطى استغلال الدين في التطرف الفكري والسياسي، مما أدى لخلافات دينية مذهبية حادة، وصراعات سياسية طائفية دموية مرعبة، وخاصة قبل العصرين الذهبيين: الايدو، في القرن السادس عشر، والميجي، في القرن التاسع عشر.
ويعتبر المؤرخون، غزو عساكر اليابان لجيرانهم، ومشاركتهم في الحربين العالميتين، مرتبطين بايمانهم بحرب الحروب الكبيرة، التي نادى بها الراهب نشرين، للقضاء على الهيمنة الغربية على آسيا. ولم تتأصل ثقافة التناغم الديني والمذهبي إلا بعد انتهاء دمار الحرب العالمية الثانية، بدخول جيوش الحلفاء بقيادة الجنرال ماك آرثر، وموافقة البرلمان على دستور فصل الدين عن الدولة، ومنع الحرب في مادته التاسعة، ليعيش الشعب الياباني في وئام وسلام خلال العقود السبعة الماضية.
وقد لعب التعليم الياباني دورا مهما في نشر بيئة ثقافة مجتمعية متزنة، بتكوين التوازن بين العلوم الطبيعية الفيزيائية، المهتمة بتطور الإبداعات التكنولوجية، والعلوم الروحية الأخلاقية، المهتمة بالوئام الإنساني، واحترام الطبيعة، ومواردها المختلفة. ولنستمع لما قاله كوزو ايناموري رئيس شركة كيوسيرا، مؤسس جائزة نوبل اليابانية، والمسماة جائزة كويتو العالمية: «الفلسفة التي أومن بها هي أنه لن نطمئن على مستقبل البشرية إلا من خلال إيجاد التوازن اللازم بين تطور العلوم المادية والعلوم الروحية. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني فقط، وتبخس قيمة الروح والعاطفة والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة، ومع بداية القرن الحادي والعشرين ستكون مسؤوليتنا الأساسية أن نرفع العلوم الروحية، إلى المستوى نفسه الذي وصلت إليه العلوم الطبيعية والتكنولوجية، لنستطيع التعامل مع اختراعاتها بحكمة، ولنرفع من قدر أذهاننا ونشرفها».
ومن المظاهر اللافتة للنظر لزائر اليابان، هو التناغم بين مختلف الأديان والمذاهب، فالشعب الياباني يتجنب الحوار في الأمور الخلافية، ويمتنع عادة عن مناقشة الدين، مع أن هناك أكثر من مائة وستين ألف معبد، ويصل عدد زوار بعض هذه المعابد لأكثر من سبعة ملايين زائر سنويا. ويحتفل اليابانيون بالمولود الجديد في معبد الشنتو، وبالزواج في الكنيسة، وأما الوفاة فلها طقوسها الخاصة والمهمة وتتم في المعابد البوذية. وتعتبر الشنتو الديانة الأصلية لليابان، ويرجع تاريخها لأكثر من ألفين وستمائة سنة. ودخلت البوذية في القرن السادس عن طريق كوريا من الصين، واستفاد الشعب الياباني مما رافقها من الحضارة الصينية لتطوير بلاده. كما آمن الشعب الياباني بمقولة بوذا: «لا تؤمنوا بشيء، لا يهم من أين تقرأونه، ولا من قاله، ولو سمعتموه مني، إلا إذا كان يتفق مع منطق العقل، والفطرة البشرية».
وقد حاولت البعثات التبشيرية نشر الأديان الإبراهيمية، فهناك قلة من المسيحيين والمسلمين. وتوجد في اليابان مذاهب عديدة، ولها منظمات وهيئات دينية مـتباينة الأهداف والمصالح، ولكن لا يسمح لها قانونيا بممارسة السياسة، فالدستور يفصل الدين عن الدولة. فمثلا هناك منظمة مشهورة لأحد المذاهب البوذية، ولكن جناحها السياسي المسمى حزب الكيموتو، منفصل عن هذه المنظمة، وله أعضاء في البرلمان، بل يشارك عادة في الحكومة، ولكنه لا يناقش أيا من أمور الدين، بل تحدد مسئولياته ضمن الشؤون السياسية الحياتية: الصحة، والتعليم، والإسكان، والبطالة، والاقتصاد، والتنمية الاجتماعية. وتعتبر الشؤون الدينية، من اختصاص رهبان المعابد، وأكاديميي التخصصات الدينية المختلفة في الجامعات. وأما القيم الأخلاقية والروحية، وطرائق سلوكها، فهي مسؤولية وطنية على كل فرد.
ويبدو كأن منطقة الشرق الأوسط الكبير تعيد اليوم، المرحلة التي عاشتها اليابان في القرون الوسطى، من إرهاصات انتفاضات ثورية وإصلاحية، وصراعات تطرف فكري، وإرهاب عنف سياسي، استغلت فيها الاختلافات الدينية والمذهبية. وقد حاول الكثير من قيادات ومفكري المنطقة، إيجاد بيئة من التناغم الديني، باحترام الاختلافات الدينية والمذهبية، للوقاية من استغلال الدين في نشر ثقافة التطرف والإرهاب. فقد دعت هذه القيادات إلى لقاءات ودية، تحت سقف المصارحة والتحاور الحر المباشر، لطرح أمور الدين الحنيف، بشفافية وصدق ورؤية قائمة على العلم والبحث النزيه، والارتقاء بالخطاب الديني إلى ما أمر به العزيز الحكيم، في محكم كتابه من الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبما يؤسس بالتالي لخطاب وطني رصين يستند إلى القيم الروحية والأخلاقية السامية والى الحقائق العلمية والاجتماعية، في إطار الوحدة الوطنية التي هي من الثوابت والأولويات.
فقد طرحت هذه القيادات مشروعا لخطاب وطني يستند، إلى ثلاث دعائم أساسية: القيم الروحية الأخلاقية، والحقائق العلمية والاجتماعية، وأن يكون ضمن إطار الوحدة الوطنية. ولكي يكون الحوار علميا ومنتجا، حددت صيغ محددة لهذا لحوار تجمع بين الحكمة والشفافية والصدق، وبرؤية قائمة على العلم والبحث النزيه. ويهدف هذا المشروع للوقاية من استغلال البعض للدين، لغسل عقول الشباب، وبالأخص في فترة المراهقة الحرجة، لتبرير التطرف وإرهاب العنف، لتلتقي قلوب الشباب وعقولهم على الاهتمام بالعلم والمعرفة، واحترام الواجب، والولع بالإبداع والإنتاجية، واحترام الوقت وتنظيمه، والتفاني في العمل وإتقانه، ولخلق توازن بين العلوم الطبيعية الفيزيائية، والعلوم الروحية الأخلاقية، وإيجاد معادلة ناجحة بين الواقعية الحياتية، والمثالية الحالمة، لكي يستمر الاستقرار والوئام، ولتتناغم إنتاجية المجتمع، لمواصلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة.
فلنحاول عزيزي القارئ أن نتدارس تفاصيل هذا المشروع الحضاري، الذي نحن في اشد الحاجة لتنفيذه، في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة، بسبب تحديات العولمة والجهود المبذولة لبناء حضارة الألفية الثالثة. وقد نحتاج، أولا، لتعريف القيم الروحية والأخلاقية، والحقائق العلمية والاجتماعية، ومفهوم المواطنة والوحدة الوطنية، ليتم الحوار على أسس واضحة، ولتجنب ضياع الوقت في مجادلات غير منتجة. ولكي تتوسع مدارك هذا الحوار، ولنبتعد عن الاعتقاد أن كلا منا يملك وحده الحقيقة كلها، نحتاج، ثانيا، للإجابة عن سؤال قد يبدو غريبا وحالما: هل هناك كائنات حية في كواكب الأجرام السماوية الأخرى، التي يبعد بعضها عنا المليارات من الكيلومترات؟ وهل توجد بين هذه الكائنات فصائل تملك عقل إنسان الأرض؟ وهل هناك رسالات سماوية انتشرت بين هذه الكائنات في أجرام الكون الأخرى؟
وقد تبدو للوهلة الأولى أن هذه الأسئلة أسئلة خيالية، ولكنها أصبحت في الحقيقة أسئلة واقعية مع بدء الألفية الثالثة، وتحول الكرة الأرضية لقرية عولمة صغيرة، بفضل تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات. فقد أرسلت مؤسسة الفضاء الأمريكية «ناسا»، مركبة للنزول على سطح المريخ، للبحث عن وجود الماء على هذا الكوكب، الذي قد يعكس إمكانية وجود الكائنات الحية في كواكب الأجرام السماوية الأخرى. وقد تأكد العلماء، فعلا، من وجود كتل ماء ثلجية تحت سطح المريخ. فستوسع هذه الاكتشافات الجديدة مدارك عقولنا، لمعرفة مدى عظمة الخالق جل شأنه، ليس فقط في خلق الأجرام السماوية التي لا حصر لعددها، بل أيضا لوضعه، جل شأنه، القوانين الفيزيائية التي تحكم السيطرة على هذا الكون. فمثلا تتكون جميع المواد الفيزيائية، والكائنات الحية، من تريليونات من الجزيئات الصغيرة. وتحتوي هذه الجزيئات على ذرات صغيرة جدا، وهي أصغر وحدة كتلة في الكون، تشبه تركيبة كل منها الإجرام السماوية، فهناك نواة مركزية كالشمس، وبها مجموعة من البروتونات والنيوترونات، وتدور حولها مجموعة من كواكب الالكترونات. كما تأكد مؤخرا أن كلا من هذه المجموعات الصغيرة تتكون من جزيئات أصغر فأصغر. وتعكس هذه الحقائق مدى عظمة الخالق جل شأنه، وبأن لا أحد من البشر يملك الحقيقة، بل جميعنا طلاب للحقيقة، وليس هناك حقائق علمية مطلقة، بل هي متغيرات، حسبما يجمعه الإنسان من علم ومعرفة عن أسرار هذا الكون، التي لا يعرف حقائقها إلا الخالق جلت عظمته. وستجنب الإنسان هذه الحقائق، التعصب في الرأي، وتساعده على احترام اختلاف الرأي الآخر، والتحاور معه بنزاهة، لتخلق بيئة علمية، تتفاعل فيها الأفكار وتتبلور، لتنتج إبداعات ثقافية واختراعات تكنولوجية مفيدة، وتجنبنا الحوارات السياسية الدموية المتطرفة، وتوجهنا لطريق الحكمة والموعظة.
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.