أمريكا و فيتنام و العميل البرتقالي
 تاريخ النشر : الخميس ١٥ مارس ٢٠١٢
بقلم: د. إسماعيل محمد المدني
العميل البرتقالي تلألأ نجمه وذاعت شهرته أثناء الحرب الأمريكية على فيتنام في الفترة من ١٩٦٢ إلى ١٩٧٥، ولكن نجومية هذا العميل لم تأْفل بعد، ولم تنته مع انتهاء الحرب، فهذا العميل مازال على لسان المسئولين في بعض الدول التي شاركت في الحرب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومازالت وسائل الإعلام في هذه الدول تتذكره وتكتب عنه، ومازالت المحاكم الأمريكية تكتظ بالدعاوى المرفوعة ضد العميل البرتقالي حتى يومنا هذا.
فالعميل البرتقالي أُطلق على نوعٍ من مبيدات الأعشاب استخدمه الجيش الأمريكي أثناء حربه في فيتنام، ورش بالطائرات ملايين الجالونات منها فوق الغابات والحشائش الكثيفة التي كان يختبئ داخلها المقاومون الفيتناميون، فيقوم هذا المبيد بالقضاء على هذه الغابات والأعشاب البرية فينكشف المحارب الفيتنامي من تحتها، فيقومون بقتله بالطائرات العمودية أو الجنود الأمريكيين المشاة الذين يتربصون خروجه من مخبئه.
وتتمثل خطورة هذا العميل في احتوائه على ملوثٍ خطر جداً على صحة البيئة والإنسان، ويُعد هذا الملوث الذي يُعرف علمياً بمركبات «الديكسين» من أشد المركبات الكيميائية سُمية وتدميراً لصحة الإنسان، فهي ملوثات ثابتة ومستقرة لا تتحلل، وبالتالي لها القدرة على التراكم في مكونات البيئة والحياة الفطرية ثم الانتقال إلى أعضاء جسم الإنسان والتركيز في الشحوم والدهون وإصابته بأمراض مزمنة.
ولذلك فإن هذا العميل الذي قتل الفيتنامي أثناء الحرب، أصبح الآن يُمِيت الأمريكي بعد انتهاء الحرب ولكنه موتً بطيء وبعد معاناة طويلة مع المرض، وبات هذا العميل يُشكل كابوساً مرعباً يلاحق أمريكا والجنود الذين تعرضوا له، سواء أكانوا محاربين أو جنودا آخرين يقومون بعمليات فتح براميل العميل البرتقالي أو التخلص منه بعد الانتهاء من استعماله في قواعد عسكرية في اليابان أو الفيتنام، بل إن هذا العميل البرتقالي شكل تهديداً لصحة المواطنين الأمريكيين الذين كانوا يعيشون بالقرب من المصنع الذي ينتج هذا المبيد الخطر.
أما في اليابان فقد كشفت الصحف اليابانية مثل صحيفة اليابان تايمس
)semit napaJ( في العديد من التقارير التي نشرت مؤخراً عن أقوال شهود عيان من الجنود الأمريكيين عن وجود براميل العميل البرتقالي التي تم شحنها من فيتنام ودفنها في مواقع عسكرية أمريكية في جزيرة أوكيناوا )awanikO( اليابانية في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، عندما كانت تحت الاحتلال الأمريكي.
وقد قام هؤلاء الجنود الذين تعرضوا للديكسين أثناء تفريغ ونقل ودفن مئات البراميل من العميل البرتقالي برفع دعوى قضائية لتعويضهم للأضرار الصحية التي لحقت بهم وبالتحديد سرطان الرئة وأمراض أخرى مزمنة، حيث وافقت وزارة شؤون المحاربين القدماء الأمريكية على تعويضهم مالياً وعلاجهم صحياً. ونظراً لكثرة الدعاوى المرفوعة حول هذه القضية، فقد قامت أمريكا بسن قانونٍ خاص تحت عنوان «قانون العميل البرتقالي» )tcA egnarO tnegA( يهدف إلى التعامل مع قضايا تعرض الجنود للديكسين.
ومن جانب آخر، هناك قضية قد رُفعت من سكان منطقة نايترو)ortiN( المعروفة بصناعة القنابل في القرن المنصرم والواقعة في ولاية وست فيرجينيا، حيث تعرض هؤلاء السكان بشكلٍ مباشر للعميل البرتقالي عندما كانوا يعيشون بالقرب من مصنع لشركة مونسانتو )otnasnoM( في الفترة من ١٩٤٩ إلى ١٩٧١، وكان هذا المصنع يُنتج العميل البرتقالي الذي استخدم في حرب فيتنام.
وقد كسب سكان المدينة هذه القضية في ٢٤ فبراير ٢٠١٢، ووافقت مونسانتو على إنشاء صندوق بمبلغ إجمالي قدره ٩٣ مليون دولار لتأسيس برنامج صحي شامل للسكان مدة ثلاثين عاماً، منها ٢١ مليوناً يُدفع للسكان المتضررين، و٦٣ مليوناً لمتابعة القضايا الصحية للسكان، وتسعة ملايين لتأهيل منازل السكان وتنظيفها من الديكسين.
ولذلك نجد أنه بالرغم من انتهاء حرب فيتنام قبل قرابة أربعين عاماً، فإن تداعياتها الصحية، والبيئية، والاجتماعية، والاقتصادية، والنفسية ستبقى تُلاحق ضمير ووجدان الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كل يوم تنكشف قضية جديدة لها علاقة مباشرة بالحرب.
.