الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤١٢ - السبت ١٧ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢٤ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


أمي الحبيبة





آثرت ألا أكتبها مُبكراً في صباح ذلك اليوم.. ترددت كثيراً.. ولكن.. حروفي أصرت أن تكتب في ذكراها الثانية.. والدتي الحبيبة التي انصرفت عن حياتي مبكراً.. في ظروف حياتية، وقدرٌ كنت فيه أصغر إخوتي.. فمازلت أتذكر ضحكاتها وسؤالها المستمر عني.. فلم ينقطع ذلك المنظر السعيد ولو للحظة عن مخيلتي.. وشاء القدر أن تمر ذكراها وأنا في حرم خير البشرية.

شعور جارف يتدفق في شراييني ليس في ذكراها السنوية فحسب، وإنما في كل لحظة من لحظات قطار عمري الذي يسير في طريقٍ وعرٍ يستزيد بوقود الخير وتوفيق الإله، ويتحرك ببركات دعوات الوالدين المخلصة، ويُكتب على لوحاته الإرشادية (أمي: إن غابت عني همساتك وضحكاتك وحضنك الدافئ.. فلم تغب عني مشاعرك النبيلة، ودعواتك التي مازلت أنعم ببركاتها). شعور أرسمه على رمال الحُب كلما فاضت مني العبرات، وتذكرت معها مواطن الخيرات، وأنس اللحظات، مع منبع الحنان، وإشراقة الأمان، وعنوان السلام.. يا ترى هل أنشد حينها نشيد العطاء وأُكافح في دنيا البشر لأُلون أستار القلوب بفرشاة الأمل؟! هل تقبل الحروف أن أكتب أبيات الوفاء لمن أسهبت الأحاسيس في حُبها، وفاضت العبرات لفراقها، ولمن باتت تئن من الألم في الليالي، تشكو إلى بارئها أمراض الحياة.. لمن كان الصبر شعارها رفعته في كل ابتلاء أحاطها وأكل من صحتها وعافيتها..لمن وقفت على رجليها بصمود الجبال لا تشكو ألمها إلا للباري الرحيم.. ولمن كان السخاء ديدنها بصدقات طاهرات تبث رياحينها في ذلك الحي القديم الذي تقطنه.. ولمن تفننت في تقديم دورات التنظيم وإداة البيت، فروعةٌ في الطهي، وإتقان في الترتيب والتنظيم وتجميل البيت.. ولمن حملت ذلك القلب الكبير الذي احتضن الجميع، وكان نقياً كنقاوة الماء الزلال.. تتحمل من خلاله الهموم والأزمات، وتمسح كن خلاله كل الآلام الموجعة.. قلب يُقدم وجبة للأدب البالغ في حكمته، ويلُم جراح الأبناء، ويتحمل صدمات المواقف، ويُلقي وراءه كل أثقال وتسربات اللحظات. ولمن رسمت الأمل بجدارية فنية رائعة بفمها الباسم الذي يمسح عني كلما رأيته موجات الحزن المفاجىء التي تعتريني.

ولمن أتقنت كتابة علامات صفاء النفوس، والتلذذ ببهجة الحياة، وإطفاء لهيب العداوات، فلم تلتفت يوماً بأن تكون ذلك الخصم اللدود لأي بشر يُقصر في حقها، أو يضرها من ورائها، بل كانت تُسارع لوصاله والسؤال الملح عنه.

أمي.. لا أدري كيف أكتب تلك الحروف المبعثرة في حبك وذكراك.. هل أكتبها بأقلام العُشاق والمُحبين؟!.. نعم أعشقك وأعشق ذكرياتك، وأعشق تعب السنين وتحمل الآلام وأعشق ذلك الباب الذي أُغلق بعد وفاتك.. آه ثم آه يا قلبي.

عذراً والدتي.. سأكتب في حُبك ما حييت.. وإن تكررت الكلمات فرحيق الحب لن يقطع، وقريحتي ستظل تنبع حروفاً تُجمل حياتي.. في كل دعاء.. وفي كل صدقة.. وفي كل سكناتي وحركاتي في دنيا البشر.. ومع من أُحب.. أُعلمهم بأنك الأم إنما هي ذلك العطاء الخصب الذي لا ينضب، وتلك الجوهرة المُكرمة التي أكرمها المولى بفضلها، وذلك النبع الصافي الذي ينبع منه حنان الحياة ومحاسن الأخلاق، وتلك النفس الطاهرة الشامخة التي تنثر الرحمات المُنزلات من رب البريات.. أُعلم كل طفل وشاب أكرمه المولى بطلة بهية يتلذذ بها في كل صباح ومساء، بأن لا يغلق عينيه عن نبع الحنان ورمز المحبة ووطن الحب في كل العصور، وربيع العمر وأحلى شعور، وأن يكون طائراً عاشقاً لحضنها في كل حين، كما أنشدنا أغنيتها ونحن صغار.. نعم.. تذلل بين يديها ورجليها.. قبلهم ولا تنحرج.. مهما أشغلتك الحياة بطريقها الوعر، فلا تُشغلك عن قطعة فؤادك.. فهي وقتك الأول في يومك.. تبدأ به في كل يوم. نعم.. عانقت طيف حُبك يا أمي.. وأسأل المولى الرحيم أن يجمعني وإياك في جنة الخلد، وأن يتجاوز عن تقصيري في حقك.. وأن يُبارك في عمر أبي الحبيب زهرة حياتي وذخر عمري، وأن يجمعنا وإخوتي الأحباب في الفردوس الأعلى.. آمين يارب.

ابنك المُحب

بدر علي قمبر



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة