الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤١٢ - السبت ١٧ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢٤ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

انتفاضة الألفية الثالثة ومستقبل العقل العربي





دخلت منطقة الشرق الأوسط مع بدايات القرن الحادي والعشرين في مرحلة جديدة من تطورها التاريخي، بعد ما عانت شعوب العالم عولمة الرأسمالية الفائقة، التي سببت تباين الثراء، وارتفاع أسعار الحاجات الأساسية للإنسان، مما أدى لانتفاضات عام ٢٠١٠، لتمتد من مدينة نيويورك، إلى شوارع لندن، ولتشتعل الانتفاضات الثورية والإصلاحية، لما سمي الربيع العربي. وقد ترافقت هذه الانتفاضات بنجاح الحركات السياسية الاسلامية في الانتخابات وتسلّم قياداتها السلطة، وسيكون أمام هذه القيادات تحديات اصلاحية اقتصادية واجتماعية جسيمة، كما ستواجه تحديات تطوير العقل العربي، وتحسين اخلاقياته السلوكية والروحية، مع بناء توازن بين الروحانيات الدينية، والبراغماتية الحياتية، لتطوير الاقتصاد، بزيادة الانتاجية، وذلك باحترام الوقت، والعمل المبدع، لرفع نسب الناتج المحلي الإجمالي، مع تحديات عدالة توزيعه، لتطوير طبقة متوسطة، متعلمة، ومنتجة، ومدربة للتعامل مع تحديات تكنولوجيات الألفية الثالثة المتغيرة.

وسيرتبط نجاح هذه الحركات السياسية الدينية ببناء التوازن بين العلم والدين، بين المثاليات المجتمعية التقليدية وبراغماتيات العملية السياسية، وبين تحقيق المتطلبات الروحانية للإنسان وتوفير الحاجيات المادية للمواطنين. وبدون هذه التوازنات لن تستطيع قياداتها الرجوع للسلطة، بعد أن تفشل في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والروحية التي انتخبها المواطنون لتحقيقها. وسيفرض كل ذلك على هذه القيادات الانتقال من المعارضة والإنتقاد، إلى مرحلة البناء والمساءلة، فهل ستكون هذه القيادات في مستوى التحديات القادمة؟ وهل ستعالج التحديات القادمة على المستوى المحلي الضيق، أم على المستوى العولمي الواسع؟ وهل ستطور حكمتها، بدراسة تجارب التاريخ لتتجنب أخطاءه؟

لقد تم لقاء دبلوماسي في الأسبوع الماضي في طوكيو، بين سفراء الدول العربية في اليابان، مع قيادات حزب الكيموتو، الممثل السياسي الرسمي للطائفة البوذية في اليابان، الذي لعب دورا مهما في التحالفات السياسية في التجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، بالرغم من قلة عدد ممثليه في البرلمان الياباني. وقد تساءل عميد السفراء العرب في هذا اللقاء عن سبب نجاح تجربة هذا الحزب في السياسة اليابانية، مع أن الدستور الياباني يمنع الخلط بين الدين والسياسة. وقد علق رئيس الحزب بأن سبب نجاح حزبه هو فصل جناحه الديني عن جناحه السياسي، مع تجنب الجناح السياسي الخوض في الخلافات الدينية، وتركيزه في بناء الاستقرار المجتمعي، باهتمامه بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لتطوير المستوى الحياتي للشعب الياباني، والاهتمام بالتوزيع العادل للثروة، لتكوين طبقة متوسطة متعلمة ومدربة تكنولوجيا، ومنتجة بطريقة مبدعة.

وبمراجعة سريعة لتاريخ العالم سنلاحظ أن ازدهار الحضارة الإنسانية في الألفية الثامنة قبل الميلاد، بدأت بتطور الزراعة، ليتبعها تطور الديانات، ولتبدأ مرحلة جديدة من التطور في مجالي العلوم الروحية والأخلاقية، ولتقوى معها المؤسسات الدينية. وبعد النصف الثاني من الألفية الثانية،أخذت تتطور في دول الغرب العلوم الاجتماعية والفيزيائية، لتتحدى المؤسسات الدينية بأفكارها العلمية المعاصرة، بل لتنتهي بثورات تفصل الدين عن الدولة. وبينما استمر الغرب في التطور والتقدم خلال القرنين الماضيين، تأخر الشرق وتخلف فكره، فانشل العقل وحرمت المساءلة الفكرية وعوقب الإبداع، فزاد الإحباط وقلت الإنتاجية، فانتشر التخلف الاجتماعي والتطرف الفكري وإرهاب العنف، وضعفت القيم الأخلاقية والروحية. وقد طالبت قيادات ومفكرو المنطقة تكرارا إلى علماء الدين الأفاضل الارتقاء بالخطاب الديني لخطاب وطني رصين، يستند إلى القيم الروحية والأخلاقية السامية، وإلى الحقائق العلمية والاجتماعية، في إطار الوحدة الوطنية. ويبقى السؤال: كيف يمكن أن نحيي هذه القيم الروحية والأخلاقية في ظروف الألفية الثالثة في وطننا العربي وضمن قريتنا الأرضية الصغيرة، لنحقق خطابا دينيا ينشئ التوازن بين العلوم الفيزيائية والاجتماعية وبين العلوم الأخلاقية والروحية، لنكتشف المعادلة الحياتية الناجحة بين المادة والروح، وبين الواقعية والمثالية؟

لنراجع عزيزي القارئ معا تاريخ منطقة الشرق الأوسط، مهد الديانات السماوية، حينما توجت حضارة الأندلس نجاحها، بإنشاء بيئة الوئام بين الأديان أكثر من ستة قرون، فاستطاعت أن تنشئ حضارة تحترم العقل، وتقدر المساءلة الفكرية، وتجزي الإبداع. فقامت بترجمة علوم الغرب والشرق، وتفحصتها بحكمة وشفافية، وبرؤية قائمة على العلم والبحث النزيه، لتـتفاعل أفكار علمائها المبدعة مع إبداعات الحضارات السابقة، لتصبح حضارة عالمية يبني عليها الغرب الحضارة العالمية المعاصرة. فلقد اكتشفت حضارة الأندلس سر التوازن بين العقل والدين، بين المادة والروح، بين الواقعية والمثالية، بين العلوم الفيزيائية الطبيعة والعلوم الروحية، كما احترمت الاختلاف، واستفادت من خلافته بإيجابية. والسؤال ما سر نجاح هذه الحضارة في احترام الاختلاف والوقاية من خلافاته؟

لقد درس البروفيسور البريطاني طوني بوزان، في كتابه «الذكاء الروحي من خلال معرفة الحياة وموقعنا فيها»، سلوك العقل البشري وطرائق تفكيره وأساليب تطويره، وطور نظرية الخريطة الذهنية، التي تعرف من خلالها كيفية التقاط الذهن للمعلومات وتحليلها وتوجيهها وربطها بالسلوك الإنساني وقراراته. ووضح أهمية الذكاء الروحي في قدرة التعامل مع الاختلاف، وربطه بشمولية هرم الذكاء والمكون: قاعدته من الذكاء الجسمي المهتم بمهارة استخدام الجسم والمحافظة على صحته، والذكاء الذهني المسئول عن حل معضلات المنطق الكلامية والرياضية، والذكاء العاطفي المسيطر على حكمة عواطفنا، والذكاء الاجتماعي المسئول عن لطف تعاملنا مع الآخرين. وأما قمة هذا الهرم فممثل في الذكاء الروحي، وهو حكمة اختيار الإنسان بين الأنا الذاتية الجسدية، وانا النفس العليا الموجهة بالرحمة والتوازن بين الطمأنينة والأمان الداخلي والخارجي، والوعي ببواطن النفس والسيطرة على نزواتها، والعلم بمحدودية المعرفة، والشجاعة والنزاهة، وسرعة البصيرة والرحمة، وحب الآخرين، والإحساس بمشاكلهم، وكشف المعادلة الناجحة للتوازن بين الواقعية والمثالية.

وقد ناقش قداسة الدالي لاما في كتابه: أخلاقيات للألفية الثالثة، الفرق بين السلوك الأخلاقي الذي عرفه بالالتزام بسلوك يراعي شعور وإحساس ومصالح الآخرين، وبين العلوم الروحية التي حددها بعلوم القيم المرتبطة بالعمل الصالح والأخلاقيات، وتدارس الخيارات الأخلاقية للتعامل مع وقائع الحياة والطبيعة. ونادى بثورة وصفها: «دعوتي لثورة روحية وليست دعوة لثورة دينية، ولا حتى لدعوة للعيش بطريقة حياتية حالمة، ولكنها دعوة للتوجه بالبعد عن انشغالنا بذاتنا، دعوة لنحول انشغالنا للمجتمع الإنساني المرتبطين به فطريا وبقوة، وبتوجيه سلوكنا نحو مصالحنا المشتركة مع الآخرين، وذلك بغنى قلوبنا بالمحبة والرحمة والعطف، لنستطيع السيطرة على العاطفة، حينما نتعرض للظلم والاضطهاد، بالتوجه للعفو والرحمة، والابتعاد عن الحقد والانتقام».

وقد انتقد المفكرون العرب التصرفات السلبية في سلوكات العقل العربي، كالاتكالية، والفوضوية، وقلة احترام النظام، وإهمال عامل الوقت، والفردية، والأنانية، والخلط بين ثنائيات كثيرة، ومنها الخلط بين المهارة والتدليس، وتساءل أحدهم: هل تستطيع أمة تتعامل بمثل هذه الخفة بالسلوك والأخلاق أن تخرج من تخلفها وتبدأ نهضتها؟ ومن الغرابة أن ينتشر هذا النوع من السلوك في منطقة مهد الأديان السماوية، والمتخمة بالمظاهر الدينية وبأحزابها السياسية المتعددة!

وقد ربط المفكرون الاسلاميون معضلة عقلية المواطن العربي بالخطاب الديني، حيث علق أحدهم بالقول: «فكر الإنسان العربي مخطوف نحو الأوهام، ونحن بحاجة إلى فلاسفة وليس إلى خطباء، فبلادي أضاعها الخطباء، ونعاني ثقافة الموت، فخطباؤنا لا يتحدثون إلا عن أهوال يوم القيامة، وضغطة القبر، وثعبان أقرع يأتي في القبر. وهذا خلاف ما جاء في القرآن الكريم، القرآن متوازن، ذكر نار جهنم وفواكه الجنة، فالتوازن مطلوب. كما أن المشكلة أن أكثر الإسلاميين مؤدلجون بشكل فاقع، فيخلطون بين ضرورات العصر، وتناقضات التاريخ في خلطات رمادية تضيع فيها مصالح الناس. إنهم يناقشون بعض القضايا التاريخية المطلسمة، إذا كنا لا نعرف ملابسات اغتيال كيندي، فكيف سنعرف ملابسات بعض الصراعات الصغيرة التي كانت دائرة قبل أربعة عشر قرنا؟».

كما يعرض أحد الإسلاميين تصوراته لحلول براغماتية، فيقول: «الحل في ولاية الإنسان على نفسه، حيث يقوم اليوم العالم على فكر المؤسسات، وليس فكر نظرية الرجل الوتد، فالدولة المدنية هي الحل، والحضارة هي الحل، والفكر الإنساني هو الحل. فليس هناك مجال للإيمان بحزب سني أو شيعي أو مسيحي أو يهودي، بل يجب أن يوجه الإيمان للقدرات الإنسانية، التي خلقها الخالق جلت عظمته في الانسان. ومن المهم الإيمان بالدولة الحديثة لا الدولة الدينية، وذلك لان الدولة الدينية لا يمكن أن تكون في صف واحد مع الإبداع. كما يعتقد البعض أن الليبرالية ذات النكهات الأخلاقية والإسلامية قد تكون الأفضل للعالم العربي، وهي البديل لمشاريع الحركات الإسلامية، التي أراها لا تخلو من طوباوية فاقعة. أنا اسلامي، ولكني أخشى أن يحكمني أي تيار ديني، ولي تجربة في ذلك، فالدول الليبرالية بصيغة اسلامية أكثر رحمة بنا من الدول الدينية. كما أن مفهوم الدولة الدينية مفهوم حديث، اخترعته الحركات السياسية للوصول إلى السلطة، وهم لا يمتلكون تأصيلا تاريخيا أو تشريعا متماسكا لذلك، فأنا درست عشر سنوات فقها وأصولا، ولم أقتنع ولا بدليل واحد. كما أن جميع الأديان تدعو إلى التسامح وعمل الخير للإنسان، وهناك التقاء في المشتركات فلماذا لا نعمل عليها؟ أنا أتشرف بدخول الكنيسة، فهؤلاء أبناء وطننا وإخواننا في الإنسانية. ومن منا ولد في النجف سيكون شيعيا، ومن ولد في السعودية سيكون سنيا، ومن ولد في روما سيكون مسيحيا، وما أجمل أن نلتقي على المائدة الإنسانية! هل يمكن أن ارفض اديسون لأنه مسيحي، وغاندي لأنه بوذي، والراهبة تيريزا لأنها مسيحية، فقط لأنهم ليسوا من ديني؟ لنا ثوابتنا ولهم ثوابتهم ولكننا نلتقي في آلاف المشتركات».

وباختصار شديد، فمن دون تنفيذ خطاب وطني رصين، يحترم الاختلاف، ويستند إلى القيم الروحية والأخلاقية، ويعتمد على الحقائق العلمية، وفي إطار الوحدة الوطنية، والمواطنة الصالحة، التي تشمل الإخلاص للوطن، والالتزام بالدستور، واحترام القيادة الدستورية، وتأكيد الواجبات قبل الحقوق، وبالإيمان بأن العبادة هي واجب شخصي بين الإنسان وخالقه، وليست شعائر للتباهي واستغلالها في السياسة، وبأن الدين هو المعاملة بسلوك أخلاقي، يوازن بين الواقعية والمثالية، لن يستطيع العرب تحقيق تنميتهم، ليشاركوا في بناء حضارة الألفية الثالثة.

ولنا لقاء.

* سفير مملكة البحرين في اليابان.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة