الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤١٥ - الثلاثاء ٢٠ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢٧ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


في وداع العم عبداللطيف بوعلي.. رجل قلبه بحجم الوطن





قبل أيام ودعت الحد واحداً من رجالاتها الأوفياء، ومن رعيلها الأول، الذين منحوا مدينة الحد، نكهتها المميزة، وخصوصيتها التي لا تخطئها العين ولا يغفل عنها القلب والوجدان.. إنها تلك الخصوصية التي يستشعرها كل الذين زاروا الحد أو ساروا على طرقاتها وشوارعها وأموا مجالسها.. خصوصية البساطة الراقية، والأريحية النبيلة، والحياة السهلة، والأصالة في العادات والأعراف والمبادئ، والمحبة التلقائية على الوجوه وفي العيون وبين سطور الكلام..

وكما أحببنا الحد لهذه الصفات، فقد أحببنا الذين غذوها على الدوام بأنبل المشاعر، ومعها رفعة النفس وعزة الروح وبساطة المعاش.. وكان من هؤلاء العم عبداللطيف بوعلي، الذي عرفته الحد منذ بدايات تكوينها مراقباً عاماً لبلديتها، في الزمن الجميل، الذي كانت فيه اختصاصات المراقب العام تمتد من شئون المدينة وخدماتها إلى أكثر الشئون خصوصية في حياة الناس وهمومهم وشجونهم..

وكان العم عبداللطيف منشغلاً على الدوام بشئون غيره. ليس تطفلاً لا سمح الله، ولكن ضمن سياق مصفوفة متكاملة وبريئة من إنكار الذات في سبيل الآخر. وهي الصفة التي ميزت رجالات الحد الأوفياء ورعيلها الأول على نحو خاص، فجعلت منهم آباء لكل أبناء هذه المدينة التي بحجم القلب، وأعماماً لكل شبانها، وكنت من هؤلاء الشبان الذين كانوا يرون في العم عبداللطيف، قلباً أكبر من الحد، وحناناً يشبه حنان نخيلها، وسعة صدر تفوق اتساع بحرها، وصفاء لا تجده الا عند الرجال الذين نذروا أنفسهم لخدمة الآخرين.. واحتوائهم ومواساتهم ورفدهم بما يستطاع وما لا يستطاع..

ولا أذكر يوما رأيت فيه العم عبداللطيف، إلا وتذكرت مصطفى صادق الرافعي وحكمته الخالدة حين يقول: (إعمل عملك يا صاحبي، فإن لم تزد شيئاً في الدنيا كنت أنت زائداً عليها، وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فما وجدتها وما وجدتك...). وأشهد أن العم عبداللطيف بوعلي، ما تخلى عن مهمته في زيادة شيء جديد إلى الدنيا كل يوم. وأشهد أنه ترك الدنيا أحسن مما وجدها، وترك الحد أحسن مما خدمها أول مرة، وتركنا جميعاً نحن أبناؤه وأبناء اخوانه وكل الشباب الذين عاصروه في الزمن الجميل، ونحن نرى فيه أصالة الحد، ونقرأ في عيونه بساطتها وهناء عيشها، ونتلمس في علوِّ همته ما يرضي شوق عقولنا وأرواحنا الفتية للسجايا النبيلة والروح المعطاءة والأبوة التي لا تعرف تمييزا بين ابن بعيد وابن قريب..

لم يكن العم عبداللطيف بوعلي يوما زائداً عن حاجة الدنيا، بل كان دوما من الذين يزيدونها معان نبيلة ويزيدون فيها عطاءً وسعادة، مع نفس كريمة أبية دوماً ومقصد نبيل..

أما تراب الحد الذي احتضن جسده وكان مثواه الأخير، فتراب لطالما عشقه العم عبداللطيف، ولطالما أحبه ومنحه من نفسه الكثير الكثير.. ولعله الأكثر فرحاً به إذ يحتويه، فيما قلوبنا التي احبته هي الأكثر حزنا لفراقه.. وفيما شغاف شوارع الحد وطرقاتها ومجالسها تشاركنا ذات الحزن لفقدان الرجل الذي لطالما عرفته من أشد المخلصين لها والساعين في خدمتها..

رحل العم عبداللطيف بعد أن ترك بصمات كثيرة في قلوب كل الذين عرفوه، وأنا منهم، وحزني عليه بالتأكيد أكبر من أية كلمات أكتبها في رثائه، ولكن ما يؤسفني أكثر ويحز في نفسي أكثر، أن ظروفي الصحية، وضرورة سفري إلى الخارج، فرضت علي أن لا أقف طويلاً في عزاء الرجل الذي لطالما وقف مع الجميع.. ولكن ما يواسيني ان ثمة كثيرين من الذين عرفوا العم عبداللطيف وأحبوه لم يدعوا مكانا شاغراً في عزائه..

رحم الله العم عبداللطيف بوعلي، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أبناءه وأهله ومحبيه الصبر والسلوان..



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة