المقاومة الشعبية الفلسطينية: وقائع وآفاق
 تاريخ النشر : الجمعة ٣٠ مارس ٢٠١٢
بقلم: د. أسعد عبدالرحمن
كثير من الشعوب التي كافحت الاستعمار خاضت عديد أشكال النضالات ضد محتليها. منها من لجأ إلى هذه الأشكال مجتمعة في مرحلة ما، ومنها من تابع شكلا أو أكثر عبر مراحل كفاح طويلة. على أن شكل النضال الرئيس لا يمكن فصله عن أشكال نضال أخرى، ذلك أنه لربما يكون هذا الشكل أو ذاك هو الأمثل تبعا للظروف والعوامل التي يعيشها شعب دون آخر. اليوم، ثمة توافق واسع عالميا على أن المقاومة السلمية هي الأنجع، حيث تستطيع الشعوب ممارستها بأقل الخسائر عبر العمل السياسي والثقافي والفكري والاقتصادي والتنموي. كما يستطيع الجميع المشاركة فيها: الرجال والنساء والشباب والشيوخ. والمقاومة السلمية لأي احتلال أو استبداد باتت الآن مقبولة عالميا وتتماشى مع الظروف الدولية. ووفق ما كتبه (حازم صاغية): «جاءت القفزة الكبيرة للحرية مع انتفاضات أوروبا الشرقية والوسطى أوائل التسعينيات، التي جعلت من السلمية وسيلة حصرية للثورة، كما جعلت من الديمقراطية هدفاً حصريا لها».
مهم أن يعرف/ يتذكر القاصي والداني أن المقاومة الشعبية الفلسطينية لم تتوقف يوما على امتداد قرن أو يزيد، وصولا إلى ما بعد «فشل» انتفاضة الأقصى المسلحة سياسيا وعسكريا (لظروف تتعلق بميزان القوى مع إسرائيل ولتعقيدات إقليمية ودولية). ومن الأمثلة على النضالات الأحدث، يظهر لنا إضراب الأسير (خضر عدنان) عن الطعام الأمر الذي حرك العالم أجمع مطالبا بالإفراج عنه. وها هي الأسيرة (هناء شلبي) و٣٠ معتقلا آخر قد ساروا على الطريق ذاته. كما يجب ألا ننسى قرية (بلعين) وأخواتها، اللواتي مازلن، منذ سنوات، يلجأن لأسلوب سلمي وحضاري في سياق الاحتجاج كل يوم جمعة ضد جدار الفصل العنصري، أو ضد حركة الاستعمار «الاستيطان»، أو مصادرة الأراضي، يشاركهم في كفاحهم المسالم متضامنون من مختلف دول العالم، علاوة على ناشطين إسرائيليين، ضمن حملة تعبوية فلسطينية شعبية، حصلت على دعم عديد المجموعات الشعبية والمنظمات الدولية المؤيدة للشعب الفلسطيني التي تطلق أيضا المظاهرات والفعاليات في مجتمعاتها بهدف الضغط على حكوماتها مطالبة إسرائيل بوقف ممارساتها الاحتلالية. ومع استمرار التظاهرات الشعبية من دون انقطاع، أجبر أهالي (بلعين) الاحتلال على إزالة جزء كبير من الجدار عن أراضي القرية، وكذلك في قرية (جيوس). بل إن الاحتجاجات نجحت في استعادة أراضي مواطنين فلسطينيين سواء من «المستوطنين» أو من جيش الاحتلال. ومؤخرا، تكرست في الخليل «الفعاليات المحلية للحملة الدولية الثالثة لاعادة فتح شارع الشهداء»، بدأها من أطلقوا على أنفسهم لاحقا منظمي «شباب ضد الاستيطان»، وهو تجمع شبابي وطني غير حزبي يهدف إلى إنهاء الاحتلال وتفكيك المستعمرات «المستوطنات» عبر وسائل العمل الجماهيري السلمية، حيث شارك في الحملة الأولى في ٢٠١٠ اكثر من (٢٥) موقعا في العالم، واستكملت في ٢٠١١ في أكثر من (٣١) موقعا، وتجاوزت هذا العام (١٢٠) موقعا، فيما يستعد الفلسطينيون والمتضامنون مع القضية الفلسطينية في العالم لـ «مسيرة المليون» إحياء ليوم الأرض نهاية الشهر من خلال مسيرات تضامنية تجاه مدينة القدس المحتلة في خمس جبهات على الحدود الشمالية والغربية والجنوبية.
إن تبني المقاومة السلمية الشعبية يحتاج، قبل أي شرط، إلى تحقيق توافق وطني شامل يرتكز على الاقتناع بأهمية وتأثير هذه المقاومة، مع التأكيد ؟ في الوقت ذاته ؟ على شرعية وإمكانية «المقاومة المسلحة» للاحتلال وفقا للظروف المتغيرة. لذا، فإن في تبني جميع الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا فتح وحماس، نهج المقاومة السلمية الشعبية حاليا مؤشر على تطور في الوعي والنضج السياسي، سبقهم إليه الشعب الفلسطيني (وشعوب عربية أخرى)، مع إيمان جميع الفصائل أن أهم ما ميز الثورتين التونسية والمصرية، من دون غيرهما، هو المقاومة السلمية، المدعومة بالوسائل الإعلامية والتواصل الاجتماعي. لذا، متاح للفلسطينيين، فصائل وأحزاب وقوى مجتمع مدني، تبني المقاومة الشعبية التي تراها مناسبة للوضع الفلسطيني الخاص، الأمر الذي سيؤدي، أولا، إلى إعادة الجماهير إلى ساحة النضال اليومي، وثانيا، إلى تعاظم التأييد الدولي للقضية الفلسطينية مع تنامي العلاقة الجدلية بينهما، وثالثا الاسهام في عزل إسرائيل أكثر ونزع شرعيتها تدريجيا. غير أن «المقاومة الشعبية» تحتاج إلى استراتيجية وطنية فلسطينية متماسكة، ما يكفل خوض معركة استنزاف جدية ويومية مع الاحتلال وعلى كل المستويات ضمن جبهتين داخلية وخارجية. بل إن وجود حماس كحركة سياسية كبيرة، والجهاد الاسلامي كقوة ذات ثقل، سيضيف في الحالة الفلسطينية، نكهة وخاصية تجعلنا نتفق مع (صاغية): «ان الحرية في المستقبلين القريب والبعيد، ستكيف الدين كما أن الدين سيكيف الحرية. وهذا التكييف المتبادل والصراعيّ سيترك تأثيره العميق في وجهة المنطقة».
بالمقابل، هناك «عوامل نفي» لإمكانية قيام «انتفاضة ثالثة»، أهمها الواقع الفلسطيني السياسي الراهن. فالتفكك السياسي والمؤسسي الراهن الذي تعانيه الحركة الوطنية الفلسطينية يحد من قدرتها على وضع هدف واستراتيجية لتوجيه المقاومة الشعبية. وعن هذا، يقول محللون، عربا وغير عرب، إن الظروف في الضفة في هذه الفترة ليست مهيأة، وخاصة في ظل مد وجزر جهود المصالحة بين فتح وحماس، ناهيك عن توصل متنفذين فلسطينيين (سياسيين ورجال أعمال) إلى قناعة قوامها أن ثمن الانتفاضة الثالثة ربما يكون باهظا، فضلا عن إشارتهم إلى تدهور المعنويات وغياب القيادة المبادرة التي تتولى الانتفاضة، مع استمرار حالة «الموت السريري» الذي تعانيه معظم الفصائل. كذلك، فإن انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة، يلغي الاحتكاك بالمظاهرات التي يمكن أن تنطلق، علاوة على «التنسيق الأمني» بين السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال في الضفة.
في ظل ما يسمى «الربيع العربي»، وتهشيم الشعوب العربية حاجز الخوف، لم يعد ممكنا (فيما أوضحت القيادة الفلسطينية) استمرار المراهنة على مفاوضات عبثية، أو مدى جدوى وفعالية المقاومة الشعبية ومقدرتها على إجبار الدولة الصهيونية التسليم بحقوق الشعب الفلسطيني. فإسرائيل نفسها خائفة. هنا، تجدر الإشارة إلى تقرير سنوي للوضع أجرته حديثا وزارة الخارجية الإسرائيلية، عرض صورة متشائمة للبيئة الإقليمية من الناحيتين السياسية والأمنية بالنسبة إلى تل أبيب. وتتلخص هذه الصورة بالتحذير من اندلاع انتفاضة ثالثة فلسطينياً نتيجة جمود العملية السياسية، ومن حصول برودة في العلاقات مع كل من الأردن ومصر، إضافة إلى مضي طهران قدماً في برنامجها النووي وتوسيع نفوذها باتجاه ساحات إضافية في ضوء انعدام الاستقرار الذي تعيشه المنطقة.