من مفكرة سفير عربي في اليابان
الدستور و«الربيع العربي»
 تاريخ النشر : السبت ٣١ مارس ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن
كتب الوزير البريطاني ديفيد هول، في عام ٢٠٠٦ بجريدة اليابان تايمز يقول: المؤسسة الأمريكية يبدو أنها لم تستوعب الواقع الجديد الذي تشاهده بوضوح الشعوب الأخرى بأن السلطة والنفوذ قد انتقلا من الجمهورية الأمريكية العظمى ولن تستطيع أساطيلها تغيير هذا الواقع لسببين: الأول: هو أن عصر رقائق الميكروشبس الالكترونية قد بعثر السلطة والقوة والمعلومة إلى جم غفير من المراكز الصغيرة، وفي أيد جديدة سيئة. لقد أعطت الأسلحة التكنولوجية الصغيرة وتكنولوجيا الاتصالات والانترنت مجموعات صغيرة مشاغبة قوة توازي قوة الجيوش الجرارة، فالصغير أصبح مهلكا والكبير أصبح مترهلا وعرضة للهجوم. والسبب الثاني: هو المشاركة الجديدة للبلايين من الرأسماليين الجدد المتحفزين الذين التحقوا باقتصاد العولمة، وجلبوا معهم كمية هائلة من القوة المالية، ويجب على واشنطن العمل معهم كند متساو، إذا أرادت الولايات المتحدة المحافظة على مصالحها.
فإذا لم تستطع الدولة العظمى أن تقاوم رغبة الشعوب في حياة كريمة فلن تستطيع أنظمة ما سمي الربيع العربي الاستمرار ان لم تحترم كرامة شعوبها، وذلك بوضع دساتير متطورة، بعد حوار وطني صادق وبالعقل والحكمة. وقد عرضت صحيفة ايلاف في الرابع والعشرين من مارس التحديات التي تتعرض لها هذه الانظمة الجديدة في مقال يقول: أعلن النواب الليبراليون في البرلمان المصري انسحابهم من جلسة التصويت الحاسمة لاختيار اعضاء اللجنة التأسيسية التي ستتولى وضع الدستور الجديد. وأعلن نجيب ساويرس مؤسس حزب المصريين الاحرار ان جميع نواب الحزب انسحبوا من هذه الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشورى. متحدثا بذلك باسم الائتلاف المكون من احزاب مدنية ويسارية هي المصريون الأحرار والمصري الديمقراطي والثورة مستمرة، وقال ساويرس: «انها مهزلة ان تضع الدستور قوة واحدة، قوة واحدة فقط، فقد بذلنا كل ما في وسعنا لكن بلا جدوى». وبعد سلسلة من الاجتماعات التمهيدية سيختار البرلمان المصري اعضاء اللجنة التأسيسية المائة المكونة من ٥٠ من اعضاء مجلسي الشعب والشورى و٥٠ من الشخصيات العامة وأعضاء الهيئات والنقابات. وخوفا من هيمنة قوى الاسلام السياسي على اللجنة دعا العديد من الحركات المدنية والليبرالية إلى تنظيم مسيرات باتجاه مركز المؤتمرات في القاهرة حيث يجتمع نواب الشعب والشورى.
لقد دخلت منطقة الشرق الأوسط مع بدايات القرن الحادي والعشرين مرحلة جديدة من تطورها التاريخي بعد ما عانت شعوب العالم عولمة الرأسمالية الفائقة التي حولت ديمقراطيتها للعبة في يد الشركات الخاصة الكبيرة من خلال لوبياتها المأجورة لتضع تشريعات تحافظ على ثرائها الفاحش على حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة، مما أدى لتباين الثراء وارتفاع أسعار الحاجات الأساسية للإنسان لتنتهي بانتفاضات عام ٢٠١٠، امتدت من نيويورك إلى شوارع لندن ولتشعل الانتفاضات الثورية والإصلاحية في المنطقة العربية. وقد ترافقت هذه الانتفاضات بتسلم الحركات السياسية الاسلامية للبرلمانات العربية، وسيكون أمام قياداتها تحديات اصلاحية كبيرة ستحتاج لوضع دساتير متطورة وبجهود وطنية مخلصة ومتعاطفة . فهل ستكون هذه القيادات في مستوى المسئولية لبناء مجتمعات عربية متناغمة ومستقرة؟ أم ستكرر من جديد سلبيات ثورات القرن العشرين العربية بطرح دساتير تهيئ لدكتاتوريات «مخزية» باسم الدين هذه المرة؟ وهل من الممكن أن تستمر أنظمة القرن الحادي والعشرين بدون دساتير تنظم الحياة الدنيوية؟ وهل يمكنها الاستفادة من التجربة اليابانية في تحقيق ذلك؟
لندرس عزيزي القارئ تجربة اليابان مع الديمقراطية والدستور بعد ما حكمت قرونا طويلة من قبل دكتاتورية الإقطاع والعسكر. لقد بدأ عصر ميجي بوضع دستور لتحديث وتصنيع البلاد بعد أن أزالت اليابان جدار العزلة وبدأت تنفتح على العالم الخارجي. وقد صدر الدستور الياباني في العصر الحديث عام ١٨٨٩، واعتمد على قوانين الملكية الدستورية مستفيدا من تجربة الجمهورية البروسية. وتكون البرلمان في الدستور الجديد من مجلسين، مجلس نواب منتخب ومجلس نبلاء معين، وقد تحولت اليابان بذلك الدستور إلى دولة صناعية من خلال تطوير التعليم والتصنيع، واستمر العمل بالدستور نفسه حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان للحلفاء. وقد فرض الحلفاء على اليابان إلغاء دستور ميجي والعمل على وضع دستور جديد. وقد أكدت معاهدة بوستدام أنه على الحكومة اليابانية الجديدة أن تزيل جميع العوائق لتطوير الديمقراطية بين الشعب الياباني، والسماح بحرية التعبير والتفكير والعقيدة، بالإضافة لاحترام حقوق الإنسان، ويجب أن تترسخ هذه المفاهيم في الدستور الجديد. وأكدت قوات الحلفاء أنها ستنسحب حينما تتحقق هذه الأهداف من خلال حكومة منتخبة ومسئولة وتمثل الشعب. وقد أكد القائد العسكري الأمريكي الجنرال دوغلاس ماك ارثر أن حكومته لن تفرض على اليابان دستورا جديدا، بل ستشجع الشعب الياباني والحكومة اليابانية على بدء العمل على الإصلاحات الديمقراطية في البلاد.
لقد كان رئيس الوزراء شدي هارا كيجورو مترددا في القيام بأي تغييرات جذرية على الدستور، وعين رئيس الدولة ماتسوموتو جوجي مع لجنة من أساتذة القانون الدستوري للعمل على صياغة دستور جديد للبلاد، فصدرت توصيات اللجنة في فبراير عام ١٩٤٦، وكانت توصياتها محافظة جدا حسب رأي الحلفاء، ولم تضف أي تغيرات جذرية على دستور ميجي، فرفضه القائد العسكري ماك ارثر وطلب إلى مسئوليه الأمريكيين أن يقوموا بصياغة دستور جديد تماما. وقد صاغ معظم بنود الدستور الجديد اثنان من العساكر الأمريكيين يحملان شهادة في القانون وهما ميلو رويل وكورتني وتني. وقد حاول الاثنان الأخذ بعين الاعتبار دستور ميجي ورأي رجال القانون اليابانيين، وقد قدم مشروع الدستور الجديد للمسئولين اليابانيين كمفاجأة في يوم ١٣ فبراير ١٩٤٦، مع الإنذار المبطن بمحاكمة الإمبراطور كمجرم حرب ان لم يوافق عليه. وفي السادس من شهر مارس عام ١٩٤٦ أعلنت الحكومة للشعب الياباني مشروع الدستور الجديد، وفي العاشر من شهر ابريل عام ١٩٤٦ أجريت الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس النواب للبرلمان الإمبراطوري التسعين. وقد طور قانون الانتخابات ليسمح للمرأة والمرة الأولى المشاركة في الانتخابات.،وعرض الدستور الجديد على أساس أنه مشروع قانون لمراجعة تعديل دستور ميجي السابق لتجنب أي مشاكل قانونية. وصدر الدستور في الثالث من شهر مايو عام ١٩٤٧ بعد موافقة ثلثي أعضاء البرلمان عليه، وحصوله على الموافقة في الاستفتاء الشعبي، وتوقيع جلالة الإمبراطور.
وقد حول الدستور الأجنبي الجديد اليابان إلى دولة تحكمها الديمقراطية الليبرالية واعتمد على النظام البريطاني لحكومة برلمانية، أي أن تختار الحكومة من أعضاء الحزب الفائز في الانتخابات وحلفائه، ووافق ماك أرثر على أن يكون البرلمان بنظام المجلسين بدلا من المجلس الواحد المقترح من الخبراء الأمريكان، ولم يتغير أي بند من بنود الدستور منذ عام ١٩٤٧ حتى الآن، ويعتبر جلالة الإمبراطور في الدستور الجديد رمز الدولة ووحدة الشعب الياباني ومن خلاله يعين رئيس الوزراء الياباني، بعد حصول أعضاء حزبه وحلفائه على أكثر من نصف مقاعد البرلمان. كما يعين الوزراء ورئيس مجلس القضاء الأعلى، بعد المشاورة مع رئيس الوزراء. ويتكون الدستور من خمسة الاف كلمة وبه مائة وثلاث مواد قانونية مقسمة إلى احد عشر بندا. ويؤكد الدستور أن «الحكومة هي الثقة المقدسة للشعب، وسلطتها تنبع من إرادة الشعب، والسلطة تمارس من خلال ممثلي الشعب، التي تعمل لخدمة الشعب». والمادة التاسعة هي المادة المشهورة في الدستور الجديد التي تمنع دولة اليابان من إعلان حرب، كما تمنع اليابان من الاحتفاظ بقوة حربية جوية أو بحرية أو برية.
وتلاحظ عزيزي القارئ أن شعب اليابان حقق معجزته الاقتصادية من خلال دستور وضعه غريم الحرب المنتصر الذي دمر البلاد بآلات الحرب المختلفة. ولم يتفرق الشعب في نقاشات نظرية حول الدستور المفروض، مع أن الدستور الجديد ألغى أي دور لقيمهم وتقاليدهم المعروفة ضمن ديانة الشنتو، فمنع الدستور الدولة وإداراتها من ممارسة أو تدريس أي من موادهم الدينية في المدارس. ومع ذلك استمروا العمل جميعا أمام التحديات المتعددة: الأرض المحروقة نوويا، الكوارث الطبيعية المتكررة، عدم توافر الموارد الطبيعية، الأرض الصغيرة التي لا يمكن الاستفادة إلا ٢٠% منها للسكن والبناء والزراعة، بالإضافة لقيود دستور المحتل، واحتلال أربع من الجزر الشمالية، فقد كانت قناعة الشعب الياباني بأن الدستور هو وسيلة للعمل والتنمية، ولكنه ليس الهدف الذي كان يمكن أن يفرقهم ويعطل مسيرة تنميتهم وتطورهم. كما عملوا ومن خلال المعوقات الدستورية لترسيخ قوميتهم اليابانية، وقيمهم المجتمعية، وأخلاقيات سلوكهم. ومع أن الدستور يعزز أهمية الشخصية الفردية في مادته الثالثة عشرة، التي يمقتها الشعب الياباني، الذي يؤمن بالشخصية المجتمعية العاملة ضمن الفريق الواحد وبعيدة عن الأنانية الشخصية، استمروا في بناء مجتمع الفريق الواحد المتكاتف الذي ورثوه من مجتمعهم الزراعي. وحينما تطورت تكنولوجيتهم وصناعتهم أغنوها بقيم وأخلاقيات المجتمع الزراعي نفسها. ومع أن الشخصية الفردية المقترحة في الدستور الجديد تشجع الأنانية وحب الغنى والبذخ، ومع ذلك أصر الشعب الياباني على المحافظة على تقاليده وعمل بجد واجتهاد، وأسس دولته الثرية لا بلد الأشخاص الأغنياء، وابتعد عن فلسفة الأنانية الشخصية وحلم الغنى الكاذب، وحافظ على تقاليده بكون القناعة كنزا لا يفنى، وعمل الجميع لانجاز معجزة اليابان الاقتصادية. وباهتمام شعب اليابان بالذكاء العاطفي، نجح في أن يلجم عواطف الانتقام ضد المحتل الأجنبي ويشيد جسورا عديدة مع الشعب الأمريكي. ومع الوقت تطورت هذه الجسور إلى ثقة متبادلة، واستطاعت اليابان من خلال هذه الثقة أن تتكيف مع الكثير من الثقافة والإبداع الغربيين، ومع الوقت تطورت هذه الثقة واستطاعت اليابان نقل كثير من التكنولوجيا الغربية وتطويرها لتصبح الاقتصاد الثاني في القرن العشرين.
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.