من مفكرة سفير عربي في اليابان
حكمة التفكير و«الربيع العربي» (١)
 تاريخ النشر : السبت ٧ أبريل ٢٠١٢
بقلم: د.خليل حسن
لقد أدت انتفاضة عولمة القرن الحادي والعشرين لطوفان تغيرات عربية، من ثورة ليبية دموية، إلى انتفاضة مصرية شعبية ثائرة، حتى إصلاحات مغربية حكيمة هادئة.
وفي خضم هذه الانتفاضة الإصلاحية خرجت علينا فئة متطرفة «شاذة» تطالب بقلب نظام الحكم الملكي الدستوري، واستبدال جمهورية دكتاتورية «طاغوتية»به. وحينما طرحت مبادرة بسبع نقاط لإسراع الإصلاحات الاقتصادية والسياسية أصرت على الرفض، لتحقق غايتها بانهيار الحوارات الإصلاحية. وبعد عام من الاضطرابات، برزت علينا فئة تطالب بحوار غير مشروط، بعد ما انسحبت من الحكومة والبرلمان، وهي الفئة نفسها التي قاطعت الانتخابات من قبل، بحجة أن الدستور غير مكتمل.
ونحتاج هنا عزيزي القارئ لطرح الأسئلة التالية: لماذا تسرعت هذه الفئة في رفض الدستور وتجنب المشاركة في الانتخابات وانسحبت من البرلمان في فترة حرجة من تاريخ وطنها السياسي؟ ألم تؤكد دراسة التاريخ أن المواقف السياسية السلبية تعوق التطور الطبيعي للمجتمع؟ ألم تحقق اليابان حداثتها قبل الحرب العالمية الثانية بدستور الإمبراطور ميجي الذي قسم البرلمان إلى المجلسين: مجلس نواب منتخب ومجلس نبلاء معين من جلالة الإمبراطور؟ ألم تحقق اليابان معجزتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بعد الحرب، بدستور وضعه اٌثنان من عساكر الجنرال الأمريكي ماكارثر ويختلف جوهره تماما عن الثقافة اليابانية في التناغم المجتمعي وعمل الفريق؟
وليسمح لي عزيزي القارئ بمجموعة أخرى من الأسئلة: ألم تلعب الأحزاب المذهبية دورا خطرا في نشر الطائفية وتمزيق نسيج التناغم المجتمعي في مجتمعاتنا العربية؟ وهل حان الوقت لوقفة تفكير حكيمة هادئة لمراجعة أخطاء الماضي والعمل على بناء مستقبل الأجيال القادمة بدل تدميرها؟ وهل سيراجع خطباء المنابر سلبيات خبراتهم السياسية السابقة ليتفرغوا لنشر الأخلاقيات الإنسانية مع تأكيد قدسية الوقت والعمل المنتج؟ ألم يحن الوقت لحث الشباب على التعامل مع تحديات حياتهم ببراجماتية مبدعة بدل هدر حياتهم في نظريات وأحلام كاذبة؟ ألم تتحول الألفية الثالثة لزمن تخصص ينبذ فيه إفتاء خطباء المنابر في كل كبيرة وصغيرة من تحديات العولمة الدنيوية؟ ألم يثبت تاريخ الشرق الأوسط أن السلطة الدينية المطلقة لولاية الفقيه تفسد مطلقا؟ وهل حان الوقت لوقف دغدغة عواطف الشباب في مجتمعاتنا باستغلال قضية الاحتلال الصهيوني لاستمرارية القبضة الدكتاتورية «المخزية» على السلطة؟ وهل ستحتاج مجتمعاتنا العربية، بعد ما سمي الربيع العربي، لطريقة تفكير مبتكرة للتعامل مع تحديات العولمة للألفية الثالثة؟
لنحاول أن نتدارس التجربة اليابانية فقد تساعدنا على التعامل مع التحديات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية اليوم، فيذكرني وضعنا العربي بدخول جيش الاتحاد السوفيتي ابان انتهاء الحرب العالمية الثانية أربع جزر في شمال اليابان، حيث يعتبر الشعب الياباني أن هذه جزر يابانية مقدسة، ومع ذلك درس الشعب الياباني هذه المعضلة، ووجد أن الحل ليس في حلها، بل الحل في تجميد حلها، فقبل بالأمر الواقع فحافظ على البلاد موحدة وتفرغ للتنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي. وحينما أصبحت اليابان ثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية بدأت الحوار، وبشكل سلمي، لاسترجاع الجزر الأربع. وسنحاول ربط هذه المعضلة مع التفكير وحكمة القرار في التعامل مع المعضلات، فالنكبة كانت المعضلة العربية الكبرى والحروب المدمرة التي واجهناها هي الحلول التي توصلنا إليها لحل المشكلة، والتفرق والتمزق والعنف والتخلف، وظاهرة ما يسمى الإرهاب العالمي، التي نعيشها اليوم هي نتيجة الحلول التي نفذناها، فلماذا لم نتوقع هذه النتائج؟ ولماذا لم يستقرئ التفكير العربي هذه النهاية؟ فلنتدارس معا مشكلة التفكير وملازمته للذكاء والإدراك وحل المعضلات بعد ما سمي انتفاضات الربيع العربي.
كتب البروفيسور غدوارد ديبونو، أستاذ العلوم الذهنية والتفكير والذكاء بجامعتي كمبريج وهارفرد، في كتابه: تعليم طريقة التفكير، يقول: «تعليم تطوير عملية التفكير هي من أصعب الأشياء المحرجة للمناقشة.. ودائما يترافق مع مناقشتها الامتعاض والاستياء وأحيانا الغضب، ويعطي الشعور للآخرين بأن تفكيرهم ليس كما يجب، بل الأسوأ قد يتصور البعض أنك تحاول أن تظهر بأن تفكيرك أفضل منهم. والصعوبة الأخرى هي أن التفكير مترافق عادة مع الغرور وأنا الذات، فانتقاد تفكير شخص ما يعتبر تهديدا له وينبه غروره وأنا الذات بداخله.. وتترافق كلمة التفكير بمخيلتنا بالنظر والسمع والتكلم والمشي والتنفس، فلا أحد يتصور أنه يحتاج لتعلم ممارسة هذه الحواس». فمع أن مناقشة التفكير محرجة وقد تضايق الآخرين ولكن تطور المجتمع يعتمد على كيف يفكر شعبه لأن نتيجة التفكير قرارات مهمة وقد تكون مصيرية.
ويقترح البروفيسور طريقة جديدة للتفكير، سماها التفكير المتوازي، ويعرفها بقوله: «التفكير المتوازي هو تعبير عن التغير عن الطريقة التقليدية للنظر للأشياء ودراستها وتخطيط مستقبلها.. وهذا مرتبط بالإدراك وهي الطريقة البصرية والنفسية التي ينظر بها العقل البشري للوقائع التي أمامه.. والتفكير المتوازي هو التفكير المنتج والمبدع التنفيذي الذي يدرس المعطيات وينظم المعلومات ويربطها بالخبرات السابقة ليخطط الاحتمالات ويتعامل مع المعضلات العلمية والاقتصادية والسياسية». فقد نحتاج لتطوير مهارات التفكير في الأطفال إلى ألا يكون تفكير الحكم مسبقا ومطلقا بل يكون نتيجة لمعطيات مدروسة يستطيع الذهن من خلالها أن يجري عملية التفكير بتجرد، وذلك بالتحكم في العاطفة والسيطرة على جاذبية التقاليد والعادات والروابط الاجتماعية. وهنا يلعب الذكاء الذهني والعاطفي والاجتماعي والروحي دورا مهما»، ويؤكد البروفيسور أهمية تدريب العقل للنظر للمعطيات الواقعية بدون تأثير خلفيات سابقة لنستطيع أن نصدر قرارا موضوعيا ومنتجا. كما يبرز البروفيسور التحديات الجديدة للسلطة فيقول: «في المجتمعات التقليدية كانت التغيرات بطيئة والاستفادة من الخبرات المتكررة كافية للتعويض عن التفكير ويحكم النظام السياسي قلة من النخبة التي كانت تفكر للجماعة. ومع تطور المجتمع والتقدم السريع في التكنولوجيا والتغيرات المستمرة المرافقة لها أصبحت هناك معضلات يومية متكررة تحتاج لقرارات صائبة فردية وتعتمد على طريقة تفكير سليمة لحل هذه المعضلات. وأصبح التعلم والتدريب في طريقة التفكير أساسيين».
فنلاحظ أن التقدم التكنولوجي الذي حول العالم لقرية صغيرة، فرض علينا تحمل مسؤولية جديدة وهي مسؤولية التفكير لإصدار قرارات صائبة تخص العمل أو السياسات المجتمعية التي لا يمكن اليوم الاعتماد على الآخرين لإصدارها. ولنتذكر أن التصويت في الانتخابات هو من أهم قرارات المواطن في أي أمة، فمصير الأمة ومستقبلها ومستقبل أجيالها القادمة تعتمد على كفاءة النواب الذين يديرون دفة البلاد في البرلمان. فإما يكونون بمستوى الثقة الشعبية والمسؤولية الفردية فيطورون القوانين والأنظمة ويراقبون ويحاسبون تنفيذها بدقة، وإما أن يكونوا عصا دكتاتورية في عجلة التنمية والتطور وصخرة معرقلة لمسيرة تنفيذ المشروعات التنموية الطموح.
ويعلق البروفيسور على أنانية القرار فيقول: «والمشكلة في المجتمعات المتطورة أنها تعتمد كثيرا على القرارات والضغوط السياسية والتفكير الفردي. وحينما يكون هذا التفكير متوجها نحو المصالح الشخصية والمستقبلية القريبة، تتداخل في المجتمع صراعات قوى لتحقيق مصالح شخصية ضيقة، لذلك نحتاج لتدريب طريقة تفكيرنا لتغيير مفاهيم الجشع وكبح جماح أنانية النفس». ويطرح البروفيسور مشكلة نقد البعض للتفكير المتأني المدروس لإصدار القرارات فيقول: «قد يناقش البعض أن التفكير الذهني يعقد الأمور وقد يمهد الرد الانفعالي الآني والمباشر للحل المباشر والسريع، وينتج هذا التصور من الاعتقاد أن التفكير هو الطريقة لحل الألغاز لا لدراسة المعضلات بطريقة أفضل لإيجاد الحلول المناسبة، وبالعكس التفكير السليم يجب أن يكون الوسيلة لتبسيط الأمور لإمكانية فهمها لا لتعقيدها، فمن السهل إن تقرر حينما تعتقد أن هناك حلا وحيدا للمعضلة، ولكن من الصعب أن تقرر لو كانت هناك احتمالات متعددة».
ويناقش البروفيسور تعليم التفكير فيقول: «ولتطوير تعلم طريقة التفكير يحتاج الإنسان لمهارات أساسية وخلفية من المعلومات المختلفة ومهارات مهنية متخصصة كاللغة والرياضيات ومهارات التعامل الاجتماعية والتحكم العاطفي. ومن الضروري أيضا تفهم واقع المجتمع بالمعرفة الدقيقة لكيفية عمل مؤسساته المختلفة، وللأسف نحن ندرس اللغة والرياضيات والاجتماعيات ولكن فقط لفضولية التعلم لا للتدريب وللاستفادة العملية منها للتعامل مع المعضلات الحياتية. وبطريقة تفكير سليمة سنجمع وسنصنف الخبرات والمعلومات في عقولنا وسنستفيد منها لإصدار قرارات حكيمة». وهنا نحتاج لتحديث التعليم المدرسي لكي نحول المعطيات التي نجمعها إلى معلومات مصنفة في الذاكرة وتحويلها لمعرفة نستفيد منها في التعامل مع المعضلات الحياتية. ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.