وداع.. وكأنه استقبال للزعيم التاريخي بن بلة
 تاريخ النشر : الجمعة ٢٠ أبريل ٢٠١٢
بقلم: معن بشور *
وكأنه الاستقبال قبل ٥٠ عاماً، كان وداع أحمد بن بلّة قبل أيام في الجزائر.
كان المطر ينهمر، كما لم ينهمر سابقاً، فقال الناس إن السماء تبكي اليوم مَن قاد قبل ٦٠ عاماً ثورة لتحرير الأرض.
كان الجزائريون والجزائريات يتجمعون على جانبي الطريق الذي مرّ به موكب الفقيد الكبير من قصر الشعب في المرادية إلى مدافن الشهداء في مقبرة عالية الفسيحة، النساء تزغرد لابن السادسة والتسعين، وكأنه شاب اختلط عرسه بشهادته، والشيوخ يذرفون الدمع ليس فقط على رمز ثورتهم وكرامتهم، بل على من لحق به ظلم مديد على يدّ رفاق السلاح والثورة، أما الشباب فعيونهم تقدح شرراً وكأنها تقول: «كل تعتيم الدنيا وتهميش السلاطين لا يمنع الأطفال والشباب من اكتشاف قادتهم الحقيقيين ولو بعد عقود.».
من الغرب الجزائري أتوا، ومن الشرق زحفوا، من الأوراس حطوا الرحال، ومن الجنوب جاءوا، بل من كل ولايات الجزائر الوطن، وأحياء الجزائر العاصمة، ليشكلوا سلسلة بشرية بطول ٢٠ كلم، وهي المسافة بين القصر والقبر.
منزل الراحل الكبير كان يعج بالناس، قادة ومواطنين، رجالاً ونساء، كلهم جاءوا إلى «فيلا جولي» الشهيرة ليقصّوا علينا حكاياتهم مع رجل لم تبعده السجون عن مبادئ ثورته، ولم تبعده السلطة عن طموحات شعبه.
كان وجهه المطل عبر صوره الموزعة في أرجاء المنزل يشي بطفولة مقيمة في قسمات لم تستطع عقود عشرة، وآلام عظيمة، أن تشوهها، فالبراءة، كما قال يوماً ليوناردو دافنتشي، «لا تشيخ».
وكنّا ونحن نرى تدفق الناس، كتدفق المطر المنهمر على رؤوسنا، نسأل بعضنا: «ألم يقولوا لنا على مدى سنوات طويلة إن الجزائريين نسوا بن بلّة؟ لكن الشعوب لا تنسى قادتها وخصوصا إذا أحست أن هناك من يجبرها على النسيان».
العروبة والإسلام كانتا حاضرتين على لسان كل من كان يتحدث عن بن بلّة الذي جسّد في مسيرته تكاملهما الأصيل في شعب قال عنه يوماً الشيخ عبد الحميد بن باديس «إنه شعب مسلم وإلى العروبة ينتسب».
خصص الإعلام الجزائري، الرسمي والخاص، المرئي والمكتوب والمسموع، كل برامجه للحديث عن تاريخ بن بلّة، فكأننا نحن أمام تاريخ الجزائر كله، بل تاريخ الأمة من محيطها إلى خليجها.
حسرة لم يخفها الجزائريون، وهم يلحظون غياب ممثلين عن أقطار عديدة حمل لها بن بلّة كل الود والحب والاعتزاز، وإن كان الحضور المغاربي الرفيع المستوى قد عوّض قليلاً، فوحدة المغرب العربي الكبير كان دائماً شاغله، كما كانت فلسطين والعراق والوحدة العربية والتنمية والعدالة.
ذكّرني المؤرخ الجزائري الصديق مصطفى نويصر، ومعه المحامي المغربي خالد السفياني الذي حضر التشييع، أنه حين زار بن بلّة المغرب عام ١٩٩٧ للمشاركة في أعمال المؤتمر القومي العربي، لم يحصل على تأشيرة دخول، فاعترض ضابط الأمن في مطار «الدار البيضاء»، فنظر إليه بن بلّة بأبوة لا تخلو من عتب: «هل بتنا نحتاج إلى فيزا لدخول المغرب؟». خجل ضابط الأمن من نفسه وأبلغ مسؤوليه فسارعوا إلى تدارك الخطأ ليفتحوا صالة كبار الزوار لابن «مغنية» الواقعة على الحدود بين الجزائر والمغرب.
رفيق بن بلّة الدائم في سنوات المنفى بعد عام ١٩٨٠، الدكتور خالد بن إسماعيل، روى قصة مماثلة لبن بلّة في مطار القاهرة، فقد كان «الرمز الوحدوي العربي الكبير يرفض أن يطلب تأشيرة لدخول بلد عربي».
وحين كان يعلم من نلتقيهم من الجزائريين أننا قد جئنا، د. هاني سليمان وأنا، من لبنان، تشرق وجوههم بالاستبشار، فاللبنانيون وقفوا مع ثورة الجزائر، كما مع كل مقاومة، حتى كانت لهم مقاومتهم الباسلة التي نرفض أي محاولة لوصمها بغير حقيقتها، فالجزائريون، كما قال لي المجاهد علي بن عمار أحد أبناء قرية بن بلّة، «مع كل مقاوم أياً كان دينه أو مذهبه أو انتماؤه».
وطبعاً سألني العديد من مخضرمي الثورة عن «السفير» وناشرها طلال سلمان فهم لم ينسوا دور «السفير» في إطلاق حملة الإفراج عن بن بلّة عام ١٩٧٧، خرقت صمتاً مؤلماً حول سجن «عظيم ثوار الجزائر» كما جاء في كلمة الوداع الرسمية التي ألقيت في المدفن بحضور الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة وكبار الضيوف والمسؤولين.
* الأمين العام السابق
للمؤتمر القومي العربي
.