حمزةُ البهلوان وصراعُ العربِ والفرس
 تاريخ النشر : السبت ٥ مايو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
خلال قرون التحول والانفكاك من السيطرة العربية برزت الأشكال الجنينية للقومية الفارسية متحدة بالمذهبية، فحدثتْ تحولات المراكز في المشرق العربي الإسلامي، في هذا الحين كتبَ الفردوسي الشاه نامه يعرضُ سيرَ ملوك الفرس وحضارتهم العريقة، ويَعرض بالعرب و(بداوتهم وتخلفهم).
وهو أثرٌ مهم في تاريخ الأدب ولكن دخلته النزعات الضيقة الأفق، وفي الجانب العربي كان الارتداد عن زمنية الفلسفة والفقه العقلاني وبروز للحنبلية في قلب بغداد التي كان يُفترض أن تكون قمة الحضارة، فعادت منطقةُ المشرق إلى صراعاتها الطائفية (القومية) الغائرة، وانتقلت مركزيةُ الثقافة المقاربة لشيءٍ من التطور في مصر التي أخذتْ القيادةَ بدءًا من هذا الزمن، فتظهر السيرُ الشعبيةُ فيما الأندلس تعطي آخر أنفاسها في أشكال الفلسفة والتاريخ والفقه المغايرة للتدهور الذي جرى في المشرق من صراع القوميتين المضمرتين العربية والفارسية.
وتظهر الترجمةُ العربيةُ للشاه نامه في مصر زمن السلطنة الأيوبية سنة ١٢٢٣م، مما يؤدي إلى الرد عليها بسيرة حمزة العرب، لكن من دون تهجم عنصري.
سيرة حمزة البلهوان بأجزائها الأربعة وطبعاتها المختلفة غدتْ أثرا عربيا إنسانيا، لما شكلتهُ من فنيةٍ أدبية مختلفة عن زمانها، التي قيل إن عزالدين ابن الأثير هو صانعها لكن ثمة اختلافات في الطبعات، وأحياناً لا يوجد اسم مؤلفها كما هي طبعة البحرين الصادرة عن دار الأيام.
تحتوي ملحمةُ حمزة البلهوان على بعض السلبيات المحدودة مثل غياب السياق العام الموضوعي للبلدان ووجود المرحلة الجاهلية، ومع ذلك فإن مكةَ الإسلامية بإلهها الواحد موجودة ومقدسة، كذلك تنبثقُ شخصيةُ حمزة البطولية من هذا التوحيد الإسلامي في زمن الجاهلية، كما أن فارسَ كسرى تهيمنُ على القسطنطينية واليونان ومصر في هذا العمل خرقاً للجغرافيا والتاريخ، كذلك فإن خريطةَ الأرض فيها واتساع المسافات بين المدائن والهند وسرنديب لا تُؤخذ بالاعتبار في السرد فتتم الانتقالات «الشخصوية» بسهولة.
لكن رغم ذلك فإن السيرة الشعبية (حمزة البهلوان) ذات بنية قريبة للرواية الحديثة، فالعناصرُ العجائبيةُ الساحقة في القص السابق، تتضاءل هنا.
السردُ في هذه الملحمة يجري في بنيةٍ قريبة للرواية، وفيها قربٌ من الحياة كذلك، ومن التشكيل المتلون، المتعدد الشخصيات، الذي يتتبع بعض خصائص البلدان الموضوعية.
والصراعُ الذي تقيمُهُ هذه السيرة القديمة الرائعة بين بطلها حمزة والإمبراطورية الفارسية بقيادة كسرى ووزيره الشرير (بختك)، لا يعدم هو الآخر بعض العرض الموضوعي، حيث لا يغدو كسرى شريراً أو خيراً، بل هو متلونٌ، يؤثرُ فيه وزيره ويدفعه إلى الصراع ضد حمزة وإبعاده عن الزواج بابنته عبر مهمات خطرة، وهو صراعٌ معبرٌ عن صراع الأمتين العربية والفارسية في ظروفِ تفكك السيطرة العربية عن فارس واستقلال الأخيرة وتحولها للتعصب ضد العرب، فيقوم مؤلفُ السيرة بالعودة لتاريخ بطولي سابق على التفكك الإسلامي الراهن وقتذاك، وهو أمرٌ جرى في بقية أشكال الوعي وخاصة الفقه والفلسفة.
وتعتبر المهمات الخطرة هي لب الجزء الأول من سيرة حمزة، ويعطينا هذا الجزءُ سرداً مشوقاً في مساره العام، حيث تتنامى مغامراتُ الأمير حمزة وهو يجمعُ الخراجَ الذي يأمرهُ بهِ كسرى كوسيلةٍ لجمع نفقات عرس ابنته، فخزائنُهُ فضتْ على ما أشار بهِ وزيرهُ الشرير كخطة لهزيمة حمزة والعرب عامة.
في الحراك الترحالي الذي هو شبيه بحراك يولسيس في الرواية الإغريقية، لكنه حراكُ صدامٍ مع مدن وحضارات، الساردُ يقتربُ من خصائص المدن والدول التي يدخلها حمزة ويصارعُ حكامَها، فمثلاً تظهر في بلاد الإغريق مظاهرٌ مختلفةٌ عن غيرها من البلدان، مستقاة من الخصائص الجغرافية والمدنية، وكذلك تدخلُ هذه الجوانبُ العمرانية والمدنية في الأحداث، فملكُ بلادِ الإغريق يتآمرُ على حمزة ومقاتليه، ويحول مجرى أحد الروافد النهرية، ويبنيه بشكل آخر ويدعو حمزة إلى الاستمتاع بالحياة والمكان والسباحة بالمجرى المزيف.
السرد، والوصف، وحبكة الموقف، وتفاصيل البلد اليوناني من بلاط أرضي، وتماثيل وشوارع وأزياء النساء الحرة، تنقلك إلى جو الرواية الحديثة.
وفي حراكِ جيشِ حمزة الجامع للخراج وهو الشكلُ الإقطاعي من السيطرة الاقتصادية السياسية، تبعيةٌ لكسرى، وتمردٌ عليه، عبر إعادة توزيع الخراج على الناس، وقطعه عنهم بعد سنوات سبع، وإرساله لمكة وليس للمدائن.
جانب الرومانسية السحرية والعشق من أول نظرة نجده في هذا العمل عبر التهاب مشاعر حمزة والنسوة اللاتي يلقاهن، وحدوث الحب من أول نظرة، لكن بعض هذا السحر الغرامي له اثر درامي، فابنة ملك اليونان تكشفُ خدعة أبيها وتساعد حمزة على النجاة، كما اننا نقرأ كلمات وصف وتعبير مباشرين يقدران للنساء أزياءهن الحرة المختلفة عن المسلمات.
أهم ما يمكن مدحه في هذه الملحمة الطويلة المكتوبة قبل عدة قرون قبل ظهور أول رواية عالمية مُعترف بها ومروج لها عبر المركزية الأوروبية وهي(دون كيشوت)، هو هذا السرد البسيط غير المسجوع كأنك تقرأ سطور جريدة عصرية، وبلا تزويق سجعي وشعري، وعالمُ الجن الغرائبي المحدودُ الأثر، وتطورُ الفصولِ يعتمد على فعل الشخصيات وصراعاتها الأرضية الواقعية، ويتداخل فيها الحوار والسرد والجدية بالفكاهة.
رغم وجود الصراع السلبي وتفكك الشعوب الإسلامية فانه أدى إلى نتاجات ثقافية مهمة، على العكس من الصراع الراهن.
.
مقالات أخرى...
- ضد الفاشية وليس ضد الإسلام - (4 مايو 2012)
- الثورة السورية والخذلانُ العربي والدولي - (3 مايو 2012)
- المشروعُ الإيراني ينخرُ شعبَنا البحريني - (2 مايو 2012)
- تطورُ الديمقراطيةِ مرهونٌ بهزيمةِ ولايةِ الفقيه - (1 مايو 2012)
- الصراعُ غيرُ الخلاق - (30 أبريل 2012)
- مجددا حول السياسة الفاشية في إيران - (29 أبريل 2012)
- القوميات ورأسمالية الدولة - (28 أبريل 2012)
- لينين في محكمة التاريخ (٢-٢) - (27 أبريل 2012)
- لينين في محكمةِ التاريخ (١-٢) - (26 أبريل 2012)