الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٨٠ - الخميس ٢٤ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ٣ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


رباعية الاستدامة ضمان قيام ونجاح الاتحاد الخليجي





تميزت دول مجلس التعاون الخليجي بالتأني والتدرج والتبصر والتشاور في اتخاذ قراراتها التاريخية وصولا إلى الاقتراب من الكمال، فالتأني هو التَّثَبلات والتمهلال وعدم التعجلال في اتخاذ القرار كرد فعل على موقف او وضع آنيّ او مصلحة ذاتية، والتدرج الذي يعني الترقي شيئاً فشيئا وصولاً إلى غاية محددة، سنة كونية مطردة في خلق الله للعالم وللإنسان والإصلاح والتغيير، والتبصر يعني السعي لادراك وفهم العلاقات بين مختلف العناصر الذاتية والموضوعية المتعلقة بحدث او قرار معين واستبيان الحقائق المرتبطة به والسعي وراء توضيحها، دون الخضوع للأهواء والظنون والفرضيات المسبقة وانما السعي نحو اليقين، واما التشاور فيعني استخراج الرأي بمراجعة بعضهم بعضا، وبالمعنى الذي ورد في قوله تعالى بمحكم كتابه العزيز ((وأمرهم شورى بينهم)) فلا تسلط ولا استبداد بالرأي، فكانت قراراتها فعلا دائما متواصلا متنقلا من مرحلة إلى مرحلة أخرى أعلى منها وأرفع ، ناجما عن تحليل موضوعي ودراسات معمقة ومشاورات متواصلة ليس مع المسئولين الرسميين فحسب، بل مع مختلف الاطر والفاعليات الاجتماعية والثقافية المؤثرة في صنع القرار، وتقدير واع للضرورات والمستجدات وما ينبغي ان يعتمد للتعامل معها، وهذا ما لاحظه العالم اجمع في قراراتها وانجازاتها العديدة بدءا من قرارها بتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية واكمال مراحله وتنفيذ متطلباته على ارض الواقع ، وبالشكل الذي منحه المنعة والقوة والصمود بوجه اعتى الهزات والصدمات المحلية والاقليمية والعالمية التي واجهتها منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي حتى الوقت الحاضر، فظل شامخا متناميا متواصلا في عطائه على الرغم من كل ما قيل او يقال عنه من هذا الطرف او ذاك، وبالرغم من ان الطموحات كانت اكبر مما تحقق، بالوقت الذي انهارت مجالس عربية اخرى للتعاون او تعثرت وفقدت دورها على ارض الواقع، لا يمكن ان نشكك في صدق نيات وتطلعات القادة الذين سعوا لتأسيسها، كمجلس التعاون العربي الذي تم تأسيسه في بغداد في السادس عشر من فبراير ١٩٨٩ بين مصر والعراق والاردن واليمن، واتحاد المغرب العربي الذي تم الاعلان عنه في مراكش بالمملكة المغربية في السابع عشر من فبراير ١٩٨٩ ويضم خمس دول عربية هي المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، كما انهارت تجارب وحدوية عربية سابقة، ادت تداعيات انهيارها إلى جانب النكسة العربية في عام ١٩٦٧، إلى اصابة الامة العربية من مشرقها إلى مغربها بخيبة امل كبيرة واضطراب نفسي، وتدهور ثقافي، وانحراف قيمي، وتشكيك فكري ومادي ليس في امكانية قيام وحدة عربية وانما في مجمل الحيثيات التي قادت وبنيت عليها، مما هيأ الاجواء العربية إلى بروز تيارات دخيلة ذات افكار وممارسات طائفية ومناطقية واثنية باعتبارها البديل الواقعي لانهيار المشروع القومي الوحدوي. ومع كل تلك الظروف ظل الحنين للوحدة والتطلع اليها امل يراود العرب اينما كانوا وهدف مقدس لا يدانيه هدف الا تحرير فلسطين، فيما تجذر الايمان بفروسية زعماء ودعاة الوحدة باعتبارهم رموزا خالدين في وجدان كل عربي اصيل. وخلص الدارسون والمقيّمون للاسباب الذاتية لفشل التجارب الوحدوية العربية بأن اغلبها تدور في فلك معاكس لرباعية الاستدامة (التأني، التدرج، التبصر، التشاور) التي بني عليها وتطور من خلالها مجلس التعاون الخليجي، فكان ذلك سر نجاحه.

وحينما نعود للتاريخ قليلا نجد ان رباعية الاستدامة هي مواصفات راسخة في شخصية قادة عرب الجزيرة والخليج توارثوها جيلا بعد جيل، تعبر عن حكمتهم وحنكتهم وقوة بأسهم ونضج فكرهم وعمق ايمانهم بدينهم وشدة تمسكهم بقيمهم.

وهاهي تطل علينا مرة اخرى في قرار قادة دول مجلس التعاون الخليجي في ختام قمتهم التشاورية في الرياض مساء الاثنين (١٤ مايو/ ٢٠١٢) باستكمال دراسة مقترحات الاتحاد الخليجي لمناقشتها في قمة استثنائية لدول المجلس وبالشكل الذي يمنح التجربة الجديدة المزيد من النجاح، فالايمان بالاتحاد راسخ ونابع من الايمان بعروبة الخليج ووحدة شعبه. والمزايا والمنافع التي يمكن ان يحققها لدول المجلس في الميادين السياسية والامنية والاقتصادية لا يختلف عليها اثنان، فهو يعزز من مكانتها السياسية اقليميا وعالميا وبما يوطد استقلالها وييسر تطورها الديمقراطي، ويمنحها قدرات دفاعية تعبوية متجانسة تدريبا وتسليحا وتنظيما وتخطيطا، توفر لشعبها الامن والاستقرار والكرامة، وتكبح الاطماع والتحديات الاقليمية التي مافتئت تلاحقها. ويجعل منها قوة اقتصادية ومالية كبيرة ذات قدرات تفاوضية وتنافسية تعزز من موقعها في التجارة العالمية، وتمنح قطاعها الخاص المزيد من الفاعلية عبرالفرص التنموية التي توفرها، وييسر لها اقامة الاتحاد النقدي واصدار العملة الخليجية الموحدة بكامل متطلباتها، ويتيح لشعبها الاستفادة من الوفورات الناجمة عن اقتصاديات الحجم، ويعزز من فرص التشغيل والحد من البطالة، ويرسخ مبادئ التوزيع العادل للثروة، والنمو المتوازن والتنمية المستدامة لجميع اقطارها، ولاسيما ان هذه المرئيات والانشغالات ليست جديدة ولم تفارق قادة دول المجلس وتصورهم لمستقبل شعبهم في مختلف المراحل، فقد سبق أن صرح جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة المفدى في ذلك بالقول «ليظل خليجنا خليجا آمنا يواصل البناء والعطاء، ويحقق حياة مزدهرة تعلي شأن الإنسان بالإيمان والعلم والحرية لتحقيق الارتقاء والنمو والرفاهية».

كما ان الاسس التشريعية للاتحاد متوافرة في النظام الاساس لمجلس التعاون الخليجي ابتداء، والتحديات والقوى المضادة للاتحاد معروفة سلفا ، ويمكن اختصارها بالقول ان كل من لا يؤمن بعروبة الخليج ووحدة وتلاحم شعبه، ولا يرغب ولا يتمنى تعزيز وترصين مصادر قوته على الصعد كافة، ولا يريد المزيد من الاتساع في فرص الرخاء والتنمية والحرية لشعبه، ولم يعتد التنفس في الفضاءات الرحبة الطليقة، ولا تستهويه الا دهاليز المناطقية وظلامات الطائفية هو بالضرورة سيكون بالضد من الاتحاد مهما كانت البراقع التي يخفي بها حقيقته والشعارات التي يغلف بها مواقفه، وهو في ذلك يكشف انحيازه وتبعيته للقوى الخارجية التي تخشى الوحدة العربية وتناصبها العداء منذ حقب زمنية عديدة. وهؤلاء لن يفلحوا ابدا لانهم يسبحون عكس التيار، فالشعب في الخليج، عربيا وحدويا مسلما، لن يسمح بتبديد فرصة الاتحاد او ابعاد املها، وانه يلتف ويدعم بقوة قادته الميامين لإنضاج قرارالاتحاد باعتباره املا منشودا ومستقبلا مفعما بالرخاء والمنعة والتقد* أكاديمي وخبير اقتصادي



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة