الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٨١ - الجمعة ٢٥ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ٤ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


الغرب وازدواجية المعايير





إن الإضراب عن الطعام بين الأسرى والمعتقلين السياسيين في السجون هو في أغلب الأحيان احتجاج على ما يعانونه من امتهان لكرامتهم ومساس بحريتهم، وفي الحالة الفلسطينية هو لتنبيه العالم إلى مأساتهم ومعاناتهم اللتين هما صورة مصغرة لمعاناة شعب كامل يواجه أشكال التنكيل والانتهاكات كافة في ظل الاحتلال الإسرائيلي، في مواجهة كفاحه من أجل إنهاء هذا الاحتلال وتحقيق الاستقلال.

ورغم أنه من المفترض أن حالات الإضراب عن الطعام مرتبطة بقضية حقوق الإنسان، فإنه ثبت بالتجربة أن حقوق الإنسان بالنسبة إلى الغرب ليست واحدة بالنسبة إلى كل البشر.

ولعل أهم وأشهر تجارب الإضراب عن الطعام هي تلك التي شهدتها الأراضي الفلسطينية مؤخرًا والتي تمثلت في إضراب ١٦٠٠ أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية منذ ١٧/٤/٢٠١٢ تؤكد ذلك؛ حيث كشف تجاهله لها أن هناك خللاً متعمدًا في تعاطي الغرب مع قضية حقوق الإنسان.

ولا شك في أن تجاهل هذا الإضراب يذكرنا بسياسة الغرب وكذلك صحافته ومنظماته.. وما يتصفون به من الكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، ليس فقط فيما يتصل بالصراع مع الفلسطينيين، ولكن عندما يتعلق أيضًا بانتهاكاتها لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث درجت الدول الغربية على أنه حين يرتبط الأمر بإسرائيل وانتهاكاتها، فإن التجاهل يكون سيد الموقف كأنها فوق النقد والإدانة وأكبر من أن تحاسب.. مع أن الاستطلاع الأخير الذي أجرته محطة الـ«بي بي سي» قبل أيام يشير إلى أن إسرائيل هي ثالث أخطر دولة في العالم على الأمن العالمي وأكثرها انتهاكًا لحقوق الإنسان.

وهذه المعايير المزدوجة في التعاطي مع قضية حقوق الإنسان الفلسطيني تجلت في أبرز صورها من خلال سلبية الغرب حيال انتهاكات إسرائيل لحقوق الأسرى؛ حيث تمعن في تطبيق سياسة الاعتقال الإداري سنوات من دون محاكمة والحبس الانفرادي، وتمنع أهليهم ومحاميهم من زيارتهم، كما تحرمهم من التعليم ومن الرعاية الصحية.. فأين المصداقية والنزاهة وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات التي دائمًا ما يرفعونها ويستخدمونها كأداة من أجل التدخل في شؤون الآخرين؟

وحتى نكون موضوعيين يكفي للتأكد من تلك السلبية الغربية متابعة مواقف الحكومات وصحافتها من قضية إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام؛ حيث إن أغلبها لم يهتم بها أساسًا، وإذا ذكرتها صحيفة فإنها تنقلها كخبر عادي، بل من اهتم بها تعامل معها من منظور إنساني لا سياسي.

فالولايات المتحدة حليف إسرائيل القوي كان رد المتحدثة باسم خارجيتها كاشفًا عن تواطؤ إدارتها حين سُئلت عن موقف هذه الإدارة من قضية إضراب الأسرى؛ حيث أحجمت عن التعليق، بحجة أنه ليس لديها شيء تقوله، وأنه لا تعليق لديها على ذلك الإضراب.

وفي الوقت الذي لم يصدر أي تعليق عن الحكومة البريطانية على الإضراب مثلها مثل الإدارة الأمريكية، فإن أغلب التعليقات من جانب الدول الأوروبية كانت مخجلة؛ إذ لم تبد ما يتناسب مع ما يعكسه من مأساة يعيشها ٤٧٠٠ أسير داخل السجون الإسرائيلية من دون محاكمة؛ حيث يلاحظ أن الغالبية اكتفوا بإبداء القلق على الوضع الصحي للأسرى بدلاً من الإسراع إلى تحرك جاد يلزم إسرائيل بإنهاء معاناتهم، وخاصة بعد وقاحة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الذي أعلن متحديا أن حكومته لن تستجيب لمطالب الأسرى (حتى لو ماتوا).. ففرنسا علاوة على إبداء القلق (طالبت) إسرائيل باتخاذ التدابير العاجلة (لدواع إنسانية)، أما الاتحاد الأوروبي فبجانب إعرابه عن قلقه، فقد (طالب) إسرائيل بالسماح لعائلاتهم بزيارتهم في أقرب وقت ممكن بجانب توفير المساعدات الطبية.

تلك المواقف التي تثير الاشمئزاز للدول والمنظمات الغربية التي تراوحت ما بين التجاهل وبين عدم إبداء الاهتمام بهذه القضية، أكدته ودعمته مواقف الصحافة الغربية؛ حيث لم تعط هي الأخرى الإضراب الأهمية التي يستحقها، ولنأخذ الصحافة البريطانية كدراسة حالة.. فالإضراب بدأ في ١٧/٤ وانتهى في ١٤/٥ (أي استمر مدة ٢٨ يومًا) وتناولته الصحف بطريقة خبرية، ما يعني أنها تعاملت معه باعتباره حدثًا وليس مأساة تعبر عن قضية شعب احتلت أرضه ومورست بحقه أشكال العنف والتشريد والتخريب والاعتقال والقتل كافة، بل كان من الملاحظ أيضًا غياب التواتر في المتابعة من خلال تباعد الفترات الزمنية بين ما ينشر عنه في كل صحيفة؛ فالجارديان مثلاً نشرت أول تقرير خبري لها عن الإضراب في ٢٦/٤ أي بعد (٩) أيام من بدئه والتقرير التالي في ٧/٥ أي بعد ٢١ يومًا، بينما التقرير الثالث في ١٣/٥ أي بعد (٢٧) يومًا، وإن اهتمت بنشر تقارير مع نهاية الإضراب في يومي ١٤ و١٥/.٥

والحال نفسها بالنسبة إلى الاندبندنت التي نشرت تقريرًا عن بدء الإضراب في ١٧/٤، والتقرير التالي في ٧/٥ أي بعد ١٩ يومًا، وإن نشرت تقارير عنه في أيام ١١ و١٣ و١٤ و١٥/٥ مع قرب التوصل إلى اتفاق.

أما صحيفة تليجراف فنشرت تقريرًا عن الإضراب في ١٠/٥ أي بعد ٢٣ يومًا، وتقريرين آخرين في ١٤ و١٥/٥، مع تكرار المشهد في الفاينانشيال تايمز التي نشرت تقريرًا لها في اليوم التالي لبدء الإضراب (أي ١٨/٤) بينما كان تقريرها التالي في ١٤/٥ الذي أُعلن فيه التوصل إلى اتفاق إنهاء الإضراب.

وإذا كان عدم الاهتمام بدا واضحًا من الزاوية التي تم تناول الإضراب من خلالها والتباعد الزمني بين مرات التعاطي معه، فإنه زاد وضوحًا من خلال أمرين: الأول: يرتبط بصياغة العناوين التي تخدم إسرائيل؛ فأغلبها لا يعبر عن وجود مأساة إنسانية وسياسية يعيشها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، وكلها ذات طابع خبري كاعلان بدء الإضراب واعلان إنهائه، وأن المضربين يقتربون من الموت، وأن الاعتقال الإداري هو سبب الإضراب، وأن المضربين يتحدون إسرائيل باستمرارهم في الإضراب، وتدخل مصر للوساطة.. والأمر الثاني: حين تناولت الموضوع بشكل سطحي، رافضة الدخول في نقاش أو جدل يمكن أن يدين إسرائيل بإفشالها عملية السلام، وبسبب ما تشهده سجونها من انتهاكات بحق الأسرى الفلسطينيين.. تلك الانتهاكات التي تحدث للأسف تحت سمع وبصر المجتمع الدولي من دون أن تصدر عنه أي بادرة تحرك جدية لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها.

واللافت أن أبرز النماذج التي تناولت قضية الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام بالعرض والتحليل جاءت من شخصية دولية، هي «ريتشارد فولك»؛ وذلك بحكم عمله مقررًا أمميٌّا لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية؛ حيث عبر عن اشمئزازه مما يجري في السجون الإسرائيلية وإدانته تجاهل الإعلام الغربي وصناع القرار لقضية الأسرى المضربين الذين يقبع بعضهم في زنازين سوداء معزولة منذ أكثر من عشرين عامًا. أما النموذج الثاني فخاص بمراسلة صحفية بالجارديان البريطانية في القدس وهي «هاريت شيروود» التي تعد من الصحفيين القلائل الذين أبدوا اهتمامًا بقضية الأسرى؛ حيث عددت الأسباب التي دفعتهم للإضراب عن الطعام ولفتت لزيادة عددهم إلى ٢٠٠٠ أسير.

في حين كان يمثل النموذج الثالث - وهو الأمر النادر الحدوث - صحفية أمريكية تُدعى «جودي رودرين» تعمل مراسلة لصحيفة نيويورك تايمز في القدس أيضًا، تلك الصحفية التي وصفت المناضلين الفلسطينيين الجدد بأنهم أصبحوا من الأسرى ذوي الأجساد النحيلة (بسبب الإضراب عن الطعام) والمكبلة أيديهم بالسلاسل الذين ينظر إلى معاناتهم على أنها من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.

والواضح من الاستعراض السابق للمواقف السياسية والإعلامية أن الحكومات الغربية مستعدة للتخلي عن مبادئها وأيضًا تغيير قوانينها كما حصل في بريطانيا حينما عدلت منذ أسابيع في قوانينها لتمكين من ارتكب جرائم حرب من الإسرائيليين ضد الفلسطينيين من دخول أراضيها وحمايتهم من الملاحقة القضائية، كما أن معظم إعلامها يتخلى عن مهنيته وأخلاقياته حين يتعلق الأمر بإسرائيل، فكلاهما غائب عندما يتعلق الأمر بالدولة العبرية.. ولو حدث يبديان موقفًا يكتفيان فيه بالحث والمناشدات من دون ضغوط، وفي المقابل يبدوان حاضرين وبقوة حين يتعلق الأمر بدولة عربية؛ حيث تُسمع الأصوات المطالبة بتنفيذ القرارات والالتزام بالقوانين الدولية والدعوة إلى التدخل وفرض العقوبات أحيانًا، والتطاول على الرموز الوطنية حينًا آخر.

وإذا كانت الدول الغربية وإعلامها معروفي التوجه ويتسم تعاطيهما مع قضايا المنطقة بالنفاق والمعايير المزدوجة.. فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: أين العرب من كل ما يحدث؟

كان المفروض أن يكون التحرك لإنقاذ الأسرى المضربين عن الطعام من قبل الجامعة العربية ليس فقط باستنكارها الموقف الإسرائيلي، وليس بإعلان أمينها العام تحركا ـ لم ينفذ منه شيءـ عن نية الجامعة طرح قضيتهم أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان التابع لها، فضلاً عن تحرك مواز لدى محكمة العدل الدولية لاستفتائها في قضية الأسرى.. وهنا ينطبق القول على الجامعة: نسمع جعجعة ولا نرى طحنًا.

على العموم، المعول على الجامعة العربية يبدو أمرًا بعيد المنال، لذا كان دور مصر في التوصل إلى اتفاق بحكم علاقتها بالطرفين الفلسطيني والإسرائيلي يوم ١٤/٥/٢٠١٢ يقضي بفض الإضراب مقابل إنهاء سياسة العزل الانفرادي والسماح لأهالي الأسرى من الدرجة الأولى من قطاع غزة والضفة الغربية بزيارتهم مقابل أن يتعهد الأسرى بالامتناع عن المشاركة في أي أنشطة «إرهابية» في السجن أو دعمها.. رغم أن الإرهاب هو ممارسة إسرائيلية يومية بحق الفلسطينيين منذ قيامها حتى اليوم.

خلاصة القول: لا ينبغي الاكتفاء بما أفضى إليه اتفاق إنهاء إضراب الأسرى عن الطعام، لأنه لم يترتب عليه سوى تحسين طفيف لظروف الاعتقال، ولكن الأمر يقتضي تحركًا عربيٌّا رسميٌّا وبرلمانيٌّا وشعبيٌّا (من خلال منظمات المجتمع المدني) من أجل إطلاق سراح الأسرى المعتقلين لدى إسرائيل ومطالبتها بتنفيذ القرارات الدولية والاتفاقات الثنائية مع السلطة وتحركا آخر باتجاه المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة من ارتكب من قادة إسرائيل جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني، وهم كُ

* سفير جامعة الدول العربية

في لندن ودبلن سابقا







.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة