الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٨٧ - الخميس ٣١ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ١٠ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


تساؤلات حول الاصلاح ؟





لا يوجد مصطلح تعرض للظلم كالإصلاح لكثرة المدعين به والداعين إليه على اختلاف حقيقتهم الباطنة والظاهرة حتى أصبحنا نرى العميل الذي يدعو الدول الاجنبية الطامعة إلى استقدام قواتها لتدمير بلده وقتل شعبه يدعي انه يناضل من اجل الاصلاح، والانقلابي الذي يركب الدبابة ويطيح بحكومته حبا في السلطة، والمجرم الذي يقطع الطرق ويمنع الناس من تحصيل ارزاقهم، والمخرب الذي يحرق الاطارات ويوقد النار في اسفلت الشوارع فتنبعث السموم والغازات المسرطنة لتلوث البيئة وتقتل الحياة ببطء، والمتخلف الذي يحرق ويعبث بمحتويات المدارس ليوقف عجلة العلم والمعرفة، والوضيع الذي يقتلع الارصفة ويحرق حاويات القمامة لتنبعث الروائح الكريهة ويشوّه بيئة وجمالية قريته او مدينته، والسادي الذي يهوى الدماء ويدعو الشباب إلى الانتحار وزعزعة الامن حبا بالفوضى وكرها بنعمة الامن فيكون ذلك مدعاة لهروب المستثمرين وتوقف نشاطهم واتساع الفقر وانتشار البطالة ، واللص الذي يسرق ادوية واجهزة مستشفى ويحرم المرضى من حقهم في العلاج، والارهابي الذي يدعو إلى قتل الشرطة لانهم يمارسون دورهم في حماية المجتمع من اعمال التخريب، كل هؤلاء وامثالهم كثير يدعون انهم اصلاحيون وما اعمالهم الا منارات للاصلاح، فهل فعلا ذلك هو الاصلاح الذي ينشده الناس؟ وهل هذه الممارسات سياسات اصلاحية للنهوض بحاضر ومستقبل الاجيال؟ وهل الذين يمارسون هذه الاعمال هم مصلحون ؟

ولاجل الاجابة عن هذه التساؤلات لابد ان نبدأ بتحديد وتحليل مفهوم الاصلاح فقدعرّفته معاجم اللغة العربية بانه الارادة الساعية إلى الخير وتقويم الاعوجاج، وهو معاكس لمفهوم الافساد.وفي القرآن الكريم احتل الاصلاح مكانا متقدما يتناسب مع مكانته في تقويم الناس والحياة فذكر أكثرَ من (١٧٠) مرَّة بأساليبَ متنوِّعةٍ وسياقاتٍ مختلفةٍ تتمحور حول اطارين الاول الصلاح الذي ينصرف إلى الفرد الذي يتصف بالايمان والورع والتقوى والسلوك القويم. والاطار الآخر الاصلاح الذي ينصرف إلى الجماعة او المجتمع او الدولة ويعني مجموعة من القواعد الثابتة للسلوك والعلاقات بين افراد المجتمع، استنادا إلى القيم الاخلاقية والدينية. وعموما فان كلا الاطارين مرتبط ببعضهما بعضا فلا صلاح للمجتمع من دون صلاح افراده، كما ان صلاح المجتمع انعكاس لصلاح افراده. فيما أكد الباري عز وجل في محكم كتابه ان معيار الاصلاح، هو مستوى الاقتراب من الفطرة الانسانية، والاتساق معها والانسجام مع العقل والضمير، بينما الفاسد ما كان على النقيض من ذلك حيث تقول الآية المباركة: «فطرة الله التي فطر الناس عليها» فكل ما كان مخالفا لهذه الفطرة فهو فساد وانحراف. فهل الأعمال والنشاطات التي ذكرناها ويقترفها الذين يدعون الاصلاح، تنسجم مع ما يأمرنا الله به، وتستجيب لمقتضيات الفطرة؟

ان المتأمل في آيات القرآن الكريم ليجد ان تلك الاعمال لا تعدو ان تكون فسادا على اقل توصيف لها، حذر الله تعالى الناس منها في سور متعددة، فقال تعالى «ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين»، كما قال تعالى «لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس». وفي الوقت نفسه يكافئ الباري المصلحين لقوله تعالى «فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

ويقول ايضا: «والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين» كما قال تعالى: «وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون».

الاصلاح في المنهج القرآني سعي للتطوير لا للتدمير، هو فتح لابواب الخير لا للتخريب والفساد ، يخضع لضوابط والتزامات في مقدمتها احترام الموروث والخصوصية الاجتماعية والثقافية للمجتمع الذي سيحدث فيه الإصلاح، وأن ينطلق من ثوابت متفق عليها وتتلاءم مع الواقع المعاش، وفي بيئة مناسبة يسود فيها الأمن والاستقرار والعدل، فلا يتم الإصلاح تحت وقع التهديد والترهيب والاستفزاز. ولا يحقق الاصلاح الا الأسوياء الصالحون المصلحون، اما الداعون إلى القتل والحرق والتخريب فهم المفسدون الذين يقول الله في محكم التنزيل بحقهم «إنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ».

إن هؤلاء اشد الناس كرها للاصلاح الحقيقي لانهم اعتادوا على رفض التغيير والاصلاح حتى من دون مبرر للرفض، لا بل ان الاصلاح سيضر مصالحهم، وتنتفي معه مبررات زعامتهم لذا فإنهم يسعون إلى ايجاد مناخات غير متسقة ولا ملائمة للاصلاح الحقيقي ومن ضمنها رفع شعار الاصلاح المبهم غير المحدد الهدف الذي لا يستند إلى قاعدة ولا يخضع لقيم ومعايير سوى رفع الشعارات البراقة التي تدغدغ مشاعر بعض الشباب ومحدودي التعليم وتوحي اليهم بانها الطريق السريع لتحقيق الآمال لكنها في الحقيقة طريق لاجهاض الاصلاح وتأخير فرص التنمية وعرقلة سياسات التشغيل وهذا ما عبر عنه اصدق تعبير جلالة الملك المفدى بالقول: (إن إثراء مسيرة عملنا الوطني واستمرارها لا يمكن ان يتم الا من خلال تماسك وطني يقوم على الولاء والانتماء والهوية التي قوامها البذل والعطاء الذي يحقق الصالح العام للجميع في ظل وطن ينعم بالأمن والاستقرار حيث إن التنمية لا يمكن ان تتحقق الا في ظل الأمن الذي يجب ان يشارك في صنعه الجميع في إطار من الثقة المتبادلة والتعاون الوثيق). وان أفضل وسيلة لدحر مدعي الاصلاح ان تستمر مسيرة الاصلاح الحقيقي وتتواصل بخطى متصاعدة وبما يخدم الناس مؤكدين ان مستقبلنا الزاهر نرسمه بأيدينا ونصنعه في بلدنا بالجد والاجتهاد والابداع والتطوير والتكاتف والتلاحم والالتفاف حول قيادتنا الوطنية ورموزنا السياسية وبما يعبر عن صدق ولائنا وانتمائنا للبحرين ملكا وشعبا وأرضا وذلك هو الضمانة الوحيدة لتحقيق ما نصبو اليه من اصلاح حقيقي مفعم بالآمال والطموحات بغد أفضل بعون الله ومشيئته.

* أكاديمي وخبير اقتصادي



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة