الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٩٠ - الأحد ٣ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ١٣ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

دراسة التاريخ والتجربة اليابانية





كاميكازه، كلمة يابانية تعني رياح الآلهة، اشتهرت هذه الكلمة في الأربعينيات بعد هجوم الطيارين الانتحاريين اليابانيين على السفن الأمريكية في بيرل هاربر، ويرجع تاريخها الحقيقي لعام .١٢٨٤ وقد كان شعب اليابان يؤمن، وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية وصدور الدستور، بأن شعب اليابان وأرضه وإمبراطوره ترجع جذورهم إلى آلهة الكامي. وفي القصة التاريخية لليابان، كوجيكي، والتي صدرت في عام ٧٢١، يرجع الكاتب بدء تاريخ اليابان المعروفة اليوم إلى عام ٦٦٠ قبل الميلاد. ويسرد هذا الكتاب أسطورة بدء اليابان بزواج أحفاد آلهة الشمس ازنامي وازناجي، مما نتج عن زواجهما ولادة أرض اليابان. واستمرت ابنتهما إلهة الشمس برعاية اليابان منذ ذلك الحين.

ويعتبر الشعب الياباني الكاميكازه رياح الآلهة التي حمت جزر اليابان من الغزاة منذ عصور طويلة. ومن المعروف في التاريخ الياباني أن جنكيزخان حاول غزو اليابان عدة مرات. وتكررت المحاولة في القرن الثالث عشر بقيادة حفيده المعروف بكابولي خان. ففي عام ١٢٨١ تحرك كابولي خان من الصين لغزو اليابان. وقد حمل أسطوله، المكون من أربعة آلاف وأربعة مائة سفينة، مئات الألوف من الجنود المجهزين بأحدث الأسلحة في ذلك الوقت. فوصلوا لليابان وحاولوا السيطرة عليها، ولكن جيوش السموراي حاربوا ببسالة لمنعهم. والغريب في الأمر أن استيقظ الشعب الياباني في صباح أحد الأيام، واكتشفوا اختفاء جميع سفن المغول فجأة. وكان التفسير التاريخي لهذا الاختفاء بأن الكاميكازه، رياح الآلهه، قد أنقذت اليابان من الأسطول المغولي.

وقد قرر البروفيسور الياباني كنزو هاياشيدا، أستاذ علم التاريخ والآثار، أن يدرس صحة أسطورة الكاميكازة. فشكل فريقا في الثمانينيات لدراسة تاريخ هجوم المغول على اليابان عام .١٢٨٤ ولم يكن يعرف أين يبدأ، فهناك آلاف الكيلومترات من الشواطئ والبحار بين اليابان والصين. وقد علم وبالمصادفة، بأن صيادا يابانيا قد اكتشف ختما خشبيا قديما على شواطئ اليابان الغربية. فقرر البروفيسور أن يسافر مع فريق متخصص إلى المنطقة لاكتشاف أسرار هذا الختم. وقام الفريق بدراسة هذا الختم القديم، ووجدوا أن الكتابة المنقوشة عليه هي كتابة مغولية.

فبدأ البروفيسور مع فريقه البحث عن أثار سفن المغول في هذه المنطقة. فقاموا بجهد كبير للغوص في قاع البحر وشفط جميع الأحجار والرمال. وللأسف لم يكتشف الفريق أي أثر لتلك السفن. ولم ييأس الفريق، فأستمر في البحث حتى وجد في قاع البحر قطعة خشبية قديمة. وتبين بعد أجراء التحاليل المخبرية اللازمة، بأن هذه القطعة قديمة جدا ومن صنف الأخشاب الصينية. وقامت المختبرات اليابانية بدراسات دقيقة لاكتشاف تاريخ هذه القطعة الخشبية، فقدر العلماء أن تاريخها يرجع للقرن الثاني عشر أو الثالث عشر.

وبعد بحث متواصل، اكتشف الفريق عدة قطع أخرى من أعمدة السفن نفسها وبأحجام كبيرة. واستغرب الفريق حينما اكتشف أن جميع هذه القطع الخشبية تأخذ وضعا متشابها في قاع البحر. وبعد الدراسة المتأنية والبحث، استنتج العلماء حقيقة غرق الأسطول المغولي في هذه المنطقة من البحر. والسؤال المحير الذي حاول خبراء الآثار الإجابة عنه هو، ما سبب غرق هذا الأسطول الكبير الذي لم ترجع واحدة من سفنه إلى الصين؟

فقام فريق ياباني متخصص في الطوفان، مع كبار الأساتذة في الجامعات الأمريكية، بدراسة تاريخ الطوفان في هذه المنطقة، ومنذ سبعمائة عام. واستخدموا لذلك برنامج جهاز آلي متخصص. فاكتشف الفريق تعرض المنطقة لطوفان متكرر، في شهر أغسطس من كل عام، تصل سرعته لأكثر من مائتي كيلومتر في الساعة.

واستنتج البروفيسور أخيرا أن المغول رسوا بأسطولهم على شواطئ اليابان الغربية ونزلوا في جزيرة هنشوا، وتعرضوا لهجوم مضاد من سموراي اليابان، فتراجعوا إلى سفنهم. وفي منتصف إحدى الليالي المظلمة، بدأ فجأة طوفان شديد ودمر جميع الأسطول ولم يبق في صباح اليوم التالي أي اثر للسفن ولا الجنود.

حاولت عزيزي القارئ عرض هذه الحادثة لأوضح كيف يراجع الشعب الياباني تاريخه، ويصحح أخطاء هذا التاريخ بموضوعية، وبدون تدخل رجال الدين في معرفة هذه الحقائق. ومن المعروف بأن هناك خلافا تاريخيا في اليابان بين فريقين. الفريق الأول يؤمن بكل ما جاء في قصة الكوجيكي كحقيقة إلهية، وفريق آخر يعتبر كثيرا من هذه القصص أساطير غير واقعية يمكن الاستفادة من حكمها. ونلاحظ كيف تعامل الشعب الياباني بحكمة وموضوعية علمية مع هذه الخلافات التاريخية. فدرس العلماء هذا التاريخ، وحاولوا الوصول لإجابة علمية لما حدث.

وقد كنت أتمنى أن ندرس خلافاتنا التاريخية التي مضى على أحداثها أربعة عشر قرنا، دراسة علمية متخصصة، لنكتشف الحقائق ونتعلم منها، ولنبدأ معا يدا بيد وكفريق واحد، لبناء المستقبل. وطبعا لم تتطور البشرية إلا حينما تداخلت الأفكار ونوقشت الخلافات في الرأي، وتحمل البشر اختلافات بعضهم بعضا ليصلوا إلى أرضية تصالحيه مشتركة ليستطيعوا أن يكملوا التنمية البشرية في الفكر والعلوم والاقتصاد. وبالحوار نتحول من ساحات القتال والدمار إلى ساحات الإعلام والبرلمانات، لنناقش الأفكار ونستفيد من تطويرها. وبتعارك الأفكار وامتزاجها تقدمت الحضارة الإنسانية وترعرعت على مر العصور.

خلق الخالق جل شأنه هذا العالم بالإنسان والطبيعة، وأعطى الإنسان العقل ليقرر كيف سيتعامل مع هذه الطبيعة. فالإنسان جسم وعقل ونفس وروح، وتربط الروح الإنسان بحقائق غير مادية كحقيقة سر الكون وخالقه، وحقيقة ما بعد الموت. ولقد طرحت الأديان حقيقة الإنسان والطبيعة والتفاعل بينهما، والحياة والحساب بعد الموت. وقد درس العلماء العقل المعقد وطريقة تفكيره، وذكاء الإنسان الذهني، وذكاءه في التعامل مع عواطفه، وذكاءه في التعامل مع الآخرين، بالإضافة للذكاء الروحي. فما هو الذكاء الروحي وما أهميته في هذه المرحلة من تاريخنا الشائك؟ ولنا لقاء.

* سفير مملكة البحرين في اليابان



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة