الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥١١ - الأحد ٢٤ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ٤ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

«صنع الحياة» وطب الألفية الثالثة





لفت نظري في هذا الشهر مقالان في الصحافة اليابانية يناقشان التطورات الجديدة في عالم الطب لمعالجة الأمراض المستعصية. فقد كتبت صحيفة اليابان تايمز في منتصف هذا الشهر مقالا عن فتاة سويدية تعاني انسدادا في أوردة الكبد، تمكن الفريق الطبي الذي يشرف على علاجها من صنع وريد من الخلايا الجذعية لمعالجة هذا الانسداد، كما نشرت صحيفة اليوميوري شيمبون مقالا عن إنتاج فريق مشترك، من مركز ريكن للتطوير البيولوجي وشركة سوميتومو للكيماويات، شبكية مصنعة من الخلايا الجذعية للجنين. وقد زادت دهشتي حينما تذكرت أن مركز أبحاث ياباني استطاع صنع الحمض الريبي النووي(دي إن أيه) ليتمكن من صنع الجينات وإنتاج أول مورثة صناعية.

والجدير بالذكر أن المورثات هي سر الحياة، لأنها توجه الخلايا البشرية لتصنيع ما يحتاج إليه الجسم البشري من مواد كيماوية، كالهرمونات والبروتينات، كما تسيطر على تصنيع الأنسجة والخلايا المختلفة وتكاثرها. وليسمح لي القارئ العزيز بمقدمة علمية مبسطة: تعتبر الذرة الوحدة المكونة لجزيئات المادة، بينما تشكل الخلية الوحدة الأساسية لتكوين الكائنات الحية. وأصغر خلية في الوجود هي الجرثومة، التي تكون عادة على شكل كريات أو عصيات، يغلفها غشاء رقيق، وبداخلها مادة هلامية، وفي وسطها مادة وراثية تسيطر على وظائفها، وبمحيطها مصانع بيولوجية، تصنع الطاقة والمواد الغذائية والكيماوية لتحافظ على حياة الجرثومة وانقسامها. وتحتوي هذه المادة الوراثية على الملايين من الجينات، التي تقوم بإصدار الأوامر، من خلال نسخ شفرة جينية، ونقلها إلى مصانع الجرثومة لتركيب المواد التي تحتاج إليها لبقائها وتكاثرها. وتتكون الجينات من مادة كيماوية تسمى الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسجين (دي إن أيه)، وهي مادة بروتينية يشبه تركيب جزيئاتها الكيماوي سلما لولبيا، مكون حواف مقبضه من مادة النيوكلوتيد، ودرجاته من مادتي الادنوزين والثايمين أو من الجوانين والسيستوزين. وتحمل تسلسل هذه الدرجات المعلومات الوراثية التي تصدرها المورثة لمصانع الجرثومة لصنع مواد كيماوية تحافظ على حياتها وتكاثرها. وتتميز جزيئة الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسجين بقدرتها على التناسخ لتكوين مادة كيماوية أخرى تعرف بالحمض الريبي النووي (أر إن إيه)، وهي مادة بروتيتية تنقل الأوامر من مورثات الخلية لمصانعها، لتقوم هذه المصانع البيولوجية بصنع المواد اللازمة لتغذية الخلية وتكاثرها وتنظيم وتنسيق عملها. وقد قام فريق أبحاث أمريكي برئاسة البروفيسور فنتر بصنع مورثة، ونقلها لجسم جرثومة منزوع منها مادتها الوراثية، واستطاعت هذه المادة الوراثية الصناعية المحافظة على حياة الجرثومة وتكاثرها، كجرثومة طبيعية.

وقد علقت المجلة الاقتصادية البريطانية، الإيكونوميست، على هذا الاختراع الجديد في احدى افتتاحيتها بالقول: «خلق الحياة امتياز إلهي، ففي عمق النفس البشرية، هناك إحساس بأن علوم الحياة مختلفة، عن ذرات المادة الفيزيائية المتحركة والمتفاعلة، بل هي محقونة بومضة إلهية، ماهية روح حياتية، وتكون صدمة، بأن مجرد نفس فانية تستطيع صنع حياة صناعية». لقد كشف جريج فنتر مع زميله هاميلتون سميث النظام الجيني لجرثومة تسمى بالميكوبلاسما ميكويدس، في عام ١٩٩٥، وقام بنسخ جميع جيناتها الذي يصل عددها مليونا وثمانين ألفا، وصنع مورثة صناعية، تحتوي على جينات مصنوعة في المختبر من مادة الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسجين، كما استطاع صنع جرثومة بها نظام جيني صناعي، فخلق مخلوقا من دون أنساب. وقد يصرخ منتقدوه، بأنه صنع حمضا ريبيا نوويا منزوع الأكسجين، الوحش المرعب. فقد أصبحنا في عالم تصمم فيه الجرثومة، وربما النبتة أو الحيوان، بالكومبيوتر، لتنمو حسب الطلب، لتثبت هذه القدرة تفوق الإنسان على الطبيعة، ولتوعد بأدوية أفضل، وزرع أقل عطشا، ووقود أكثر اخضرار، وكيمياء متجددة. ويبقى السؤال: هل سيؤدي هذا الاختراع للتلاعب بالخلق؟ وهل سيجلب هذا الكبرياء العلمي انتقاما إلهيا؟ وما هو الرعب الذي سينجرف علينا من قارورة مختبرات هؤلاء العلماء؟

وقد تعطينا هذه الأسئلة فرصة لإعادة التفكير في اختراعاتنا البيولوجية، فعلوم الأحياء الجديدة يمكن أن تسبب أضرارا كثيرة بقدر ما تفيد، وسنحتاج إلى الوقت لتصميم الحياة على الكومبيوتر، ولكننا بدأنا. فمنذ أن أكمل مشروع النظام الجيني البشري، انخفضت كلفة وسرعة تحليل الجينات، وبنيت قاعدة بيانات لصنع الحياة من اصغر فيروس وحتى أكبر شجرة، وتطورت صناعة الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسجين. فمن الممكن اليوم محاولة صنع الحياة، وكلما كانت المحاولات أكثر زادت الأفكار المبدعة، والمشكلة هي أن هذه المحاولات قد تترافق بأفكار خبيثة، وتختلف الاختراعات البيولوجية الخبيثة عن المتفجرات لأنها حينما تنطلق تتكاثر بسرعة ووحدها. فما الذي سيحدث لو حاول متطرف صنع جرثومة خبيثة؟ وهنا سنحتاج إلى الشفافية، لنتجنب منع الجيد للوقاية من السيئ، فلوقف الشيطان نحتاج إلى عدد كبير من الأبطال، لحل أي معضلة غير متوقعة. فقد يستطيع أحد الشياطين صنع جرثومة خبيثة، ولكن هناك أيضا الكثير من الأبطال لصنع التطعيم المضاد، كما سنحتاج إلى أنظمة رقابة صارمة لنستطيع السيطرة على صناعة الحياة.

وقد علق الكاتب جويني دير على هذا الاختراع الجديد، فقال: «لقد حقق العلم خطوة رضيع وعملاق، كما قالها فنتر، بخلق أول خلية صناعية. خطوة عملاقة لأنها كانت من قبل فكرة نظرية، وهي أيضا خطوة رضيع، بسبب بعد هذه الخطوة عن هدف صنع وقود بيئي، ودواء متطور، وغذاء متقدم. كما أنها خطوة رضيع لأن الدكتور فنتر صنع مورثة جرثومية من قبل، وزرعها في نوع آخر من الجراثيم، بعد إزالة مورثتها الأصلية». ولكن ما قام به هذه المرة صنع مورثة تشابه تماما مورثة الجرثومة الأصلية، ونزع المورثة الأصلية منها، وحقن المورثة المصنوعة مكانها، فعاشت الجرثومة وتكاثرت، وكان نسلها مطابقا للجرثومة الأصلية. وقد اتهم البعض فنتر بهذه الخطوة، بأنه حاول أن يلعب دور الآلهة. ومن المهم أن نتفهم أنه لم يصنع فنتر مورثة بجينات جديدة لم تكن موجودة من قبل، بل صنع نسخة مطابقة لمورثة جرثومة تسمى الميكوبلاسما ميكويدس، التي تسبب التهاب الثدي في الماعز. وتحتوي هذه المورثة البسيطة على مليون وثمانين ألف حرف من الأبجدية الجينية، مرتبة بتسلسل دقيق، لكي تقوم بنفس وظائف الجرثومة الأصلية، وقد أخطأ فريق فنتر من قبل في حرف جيني من المليون والثمانين ألفا من الحروف الجينية لهذه المورثة، وحينما نقلت لجسم الجرثومة لم تعش ولم تتكاثر. وبعد ثلاثة أشهر من المحاولات الجادة المعقدة، اكتشف فريقه الخطأ وصححوه، وحينما نقلت المورثة المعدلة، في جرثومة منزوعة مورثتها الأصلية، عاشت وتكاثرت هذه الجرثومة بليون مرة، وقد تطابقت جميع الجراثيم الجديدة وراثيا مع الجرثومة الأم.

ويبقى السؤال الحقيقي: ما الذي حققه الدكتور جريج فنتر؟ لقد قام بنسخ مورثة كاملة، فصنعها ونقلها لخلية أخرى. وهذه الخطوة بعيدة جدا، عن خطوة اختراع وتصنيع مورثة بجينات جديدة، لتقوم هذه المورثة بتوجيه مصانع الجرثومة لمعالجة تحديات القرن الواحد والعشرين، كتحويل غاز ثاني أكسيد الكربون لطاقة نظيفة، أو صنع كميات هائلة من التطعيم ضد مرض الإيدز، أو تحويل الفضلات لمواد غذائية مفيدة. فلو حدث خطأ ولو واحدا في المليون، في صنع جينات هذه المورثة الجديدة، ستؤدي إلى موت الجرثومة وتوقف تكاثرها، ولا يعني ذلك أنه لن يحقق العلم ذلك، ولكننا سنحتاج إلى الوقت الكثير لصنع كائن حي بمورثة بجينات جديدة مخترعة. ومع ذلك هناك اليوم ثروة من آليات بسيطة ورخيصة للهندسة الوراثية تستطيع الاستفادة من الجراثيم لصنع مواد كيماوية جديدة. ولا شك سيأتي اليوم الذي ستتحقق فيه تكنولوجيا صنع الحياة، لمعالجة التحديات البيئية والغذائية والعلاجية التي نواجهها. والجدير بالذكر أن شركة اكسون موبيل للصناعات النفطية والطاقة المتجددة قد وفرت ٦٠٠ مليون دولار لمركز أبحاث صنع الحياة لشركة الدكتور جريج فنتر، كما نشر فنتر في كتابه الجديد النظام الجيني لمورثاته الشخصية، التي تقدر عددها بحوالي ستة مليارات حرف جيني، ويعتقد فنتر أننا حتى اليوم «لا نعرف شيئا عن العلوم البيولوجية، بل يحتاج عالمنا إلى عقود من الزمن لفهم أسراره».

وقد ناقش الكاتب الأوروبي، رون هوبر، أخلاقيات اختراع صناعة الحياة في الصحافة اليابانية فقال: «البوذية والكونفوشيوسية تنظر إلى الروح بمنظار يختلف عن الديانات السماوية، لذلك أحببت أن أعرف كيف ينظر العلماء والإعلام الياباني إلى هذه القضية». وقد علق مدير مركز العلوم الجينية باليابان، البروفيسور يوشيهيديه هايازيكاي على صناعة الحياة، فقال: «باستخدام تكنولوجيا صنع الحياة سنستطيع معرفة أسرار عدد الجينات ونوعيتها وطريقة عملها، لكي نحترم الحياة، فنحافظ على كائناتها الحية». كما علق بروفيسور جامعة كيوتو اليابانية، كازوتو كاتو، فقال: «وبينما نتحاور عن أنظمة الأبحاث في صناعة الحياة، لمنع التلاعب، من المهم أيضا أن نفكر ما الذي يؤدي لكي تكون الحياة حياة حقيقية، وعلينا أن نتجاوز التعريفات العلمية المعقدة، ونناقش صناعة الحياة على مستوى المجتمع بأكمله». وباختصار شديد، يحاول العلماء تصنيع مادة «الدي إن أيه» ليكوّنوا منها جينات جديدة غير موجودة في الكائنات الأرضية، ليخلقوا مورثات (كروموزومات) صناعية، ويحقنوا هذه المورثات في جرثومة منزوع مادتها الوراثية، لتقوم مصانع هذه الجرثومة بصناعة ما يحتاج إليه الإنسان لمعالجة تحديات القرن الواحد والعشرين من دواء وطاقة وغذاء ومواد صناعية أخرى. ويبقى السؤال: متى سيستطيع العلماء صنع خلية جذعية لتقوم بإنتاج أعضاء الجسم ألمختلفة، فتعالج الأمراض ألمستعصية وتستبدل الأعضاء المسنة لترجع الشباب الدائم؟ ولنا لقاء.

* سفير مملكة البحرين في اليابان



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة