الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥١٣ - الثلاثاء ٢٦ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ٦ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


النشأة المبكرة للتحديث





خلال قرنين اضطربتْ التطوراتُ في الأمم الإسلامية والشرقية عامة للخروج من التخلف والاستبداد، وانتصرتْ فيها مشروعاتُ التسريع الشمولية ثم أعادتها لنقط البدايات فكأن مائةَ سنةٍ مرتْ في فراغٍ تاريخي، فروسيا تقتربُ من مائة سنة على (ثورة) أكتوبر، والصين تقترب من سبعين سنة ومصر تقترب من خمسين ورغم التحولات الاقتصادية الكبيرة فإن مشكلات السلطات الاستبدادية لم تُحل.

عانتْ هذه الأممُ اليسار المغامر واليمين المغامر، وكلاهما شكلٌ للاستعجال التاريخي، سواء صار ذلك مرة إلى الأمام، أو إلى الخلف، فقضايا السلطات وتوزيع الثروات عبر القوانين الاقتصادية لا السياسية تعقدتْ وتراكمتْ وتشكلُ ألغاماً هائلةً في تطور المجتمعات الشرقية السائرة على النمط نفسه.

حتى لدى كبار مفكري اليسار الغربي الديمقراطي حدثت الإشكالية نفسها في بداية التحول الديمقراطي، ونظراً لتفاوت التطور بين الدول الأوروبية فإن بلداناً مثل إنجلترا وفرنسا وهولندا سارعت في التطور الديمقراطي المتجذر ورفضتْ أحزابُها الثورية مسائلَ الهيمنات الشمولية لأي طرف.

كانت هذه الدول نفسها قد شهدت الصراعات المريرة بين البرجوازية المنتصرة التي حكمتْ وبين العمال، وانفجرتْ حركةُ الشارتيين (الميثاقيين) في سنة ١٨٣٠ بانجلترا وقُمعتْ بقسوة ولكنها لم تكن تطالب سوى بأهدافٍ ديمقراطية مثل حق العمال في التصويت الانتخابي!

لكن هذه الحقوق تم الحصول عليها بعد ذلك وغدتْ بنيةً اجتماعيةً في حياة العمال، ثم تأسستْ حركاتٌ سياسية لهم، عبرَ انخراطِ العمال والشعب عامة في تجذير الديمقراطية والثقافة.

هذا التطور الأسرع لشعوب غرب أوروبا لم يكن هو نفسه لدى شعوب وسط أوروبا، في حين كانت روسيا وشعوب شرق أوروبا بعيدةً كثيراً عن هذين المستويين.

ومن هنا فإن صعودَ الألمان للتحولات الديمقراطية كان متأخراً عن نظرائه الغربيين، وانفجرتْ الحركةُ العمالية بقوة في ألمانيا سنة ١٨٤٨ مثلها مثل شعوب أوروبية أخرى، ولكن البرجوازية الألمانية كانت عاجزة عن تطوير الديمقراطية فقد سارع العمال قبلها للحراك السياسي، فهي غدتْ خائفةً على مصالحها خاصة أن اليسار الألماني رفع شعارات الاشتراكية لذا فضلتْ الاستبدادَ على صناديق الاقتراع.

من هنا تداخلَ في نشأةِ الاشتراكية الألمانية جانبي الدكتاتورية والديمقراطية، ولهذا نجدُ ذروةَ الصرخات الثورية فيها وشعار دكتاتورية العمال معبرةً عن طفوليةِ هذه التجربة وعدم نضجها وعدم حصولها على زمنٍ تاريخي كافٍ للممارسات السياسية، كذلك فإن المسائل القومية ذات أثر كبير غائر فيها، فتمزقُ الألمان بين ولاياتٍ وحكوماتٍ كثيرة خلقَ فيهم الرغبةَ في التسريع الشديد كحالِ روسيا المتأخرة المهددة بكيانها الشائك والصين المهددة بالغزو الغربي وكحال العرب الآن.

شعارُ دكتاتوريةِ العمال الذي كان يرنُ بقوةٍ في كتابات ماركس وأنجلز في سنوات نهايةِ الأربعينيات وبدايات الخمسينيات من القرن التاسع عشر، هو نتاجٌ لفتوة الشبيبة الألمانية العمالية وانفعالها وحين انغمرت ألمانيا في التحولات الاقتصادية الصناعية الكبيرة لم يتصاعد ذلك الشعارُ واختفى، ونشأتْ الحركةُ الاشتراكيةُ الديمقراطية لتفعل ما تفعله مثيلاتها في الدول الغربية الأكثر تطوراً من العمل لتحقيق إصلاحات اقتصادية اجتماعية للأغلبية الشعبية وإيجاد كتل في البرلمانات والمشاركة في الحكومات.

وهكذا فإنه في بلدان شرق أوروبا تأخرتْ في هذه التطورات، وبقيت الشموليةُ صامدةً في روسيا التي كانت هي القوةُ الاستبدادية الكبرى بين الغرب والشرق ولهذا فإن شعارَ دكتاتورية العمال وجدَ له أرضاً خصبة فيها، وكان فصمُ الديمقراطية من حركة الاشتراكية الديمقراطية تعبيراً عن تغلغل الاستبداد في الحركةِ التي صورتْ نفسَها بأنها ماركسية مستعينةً بذلك التردد الألماني الذي جرى في تلك السنوات الشائكة من تطور ألمانيا.

إذا كانت التحولاتُ في غربِ أوروبا احتاجتْ إلى قرون من النهضةِ والتحديث والصناعة لتتردد لحظاتٍ بين الدكتاتورية والديمقراطية، فإن روسيا والصين بعدها ومصر وغيرها من الدول الشرقية ذات البُنى الاجتماعية المحافظة لم تكد تجري فيها مثل هذه التحولات فلم تتردد كثيراً في تقبل الدكتاتوريات المختلفة، لكن هذه القفزات نحو الدكتاتوريات جرتْ من خلال تنظيمات وقوى سياسية قالتْ إنها ثورية، لكنها ألغتْ الديمقراطيةَ من تسميةِ الأحزاب ومن حياتها التنظيمية الداخلية ومن طبيعةِ البناءات السياسية التي شكلتها ومن العلاقات الاجتماعية بين الأجناس والطبقات والقوميات، ومن التعامل مع المذاهب والأديان والتراث عامة.



.

نسخة للطباعة

خطاب مفتوح إلى الرئيس محمد مرسي

نقولها بكل اعتزاز: تحية لمصر.. مصر الحضارة، مصر الثقافة، مصر التاريخ.وتحية لأبناء مصر المعاصرين على اخ... [المزيد]

الأعداد السابقة