هل انقلب المجلس العسكري على استحقاقات الثورة ؟
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٦ يونيو ٢٠١٢
بقلم : حسن الأسود
إن ما اتخذه المجلس العسكري المصري من قرارات بحل البرلمان والتشريع لما يسمى الإعلان الدستوري المُكمل كل ذلك يضع حزمة من الاستفهامات والتساؤلات على موجة الربيع العربي المصري وحراكه لا بل على جميع المتغيرات التي تحصل في الأقطار العربية وذلك من حيث عدة مواقف تبدو مفتعلة وغير بريئة صدرت من قبل مؤسسات الحكم لتدفع بإنجاح حراك الجماهير إلى حدود ما مقصودة ومطلوبة ودونما أن تخرج عن النطاق المرسوم لها ولكون مصر هي الدولة المحورية الكبرى في العالم العربي ولطبيعة شعبها الذي يتسم بعدم الدموية وطول البال رغم ما يتمتع به من نفره مليونية فذلك التروي ربما أدى لعدم انجرار مصر لمرحلة الاصطدام المُفكك لتركيبتها ومن ثم الدخول بها إلى مرحلة الاستنزاف رغم بعض المحاولات التي دفعت بها بعض القوى المشبوهة، ومن الواضح اليوم أن الإدارات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبعد قرارات المجلس العسكري الأخيرة التي تخوله حكم مصر بشكل مكشوف وغير مبطن حتى مع وجود رئيس منتخب كل ذلك يجعل من موقف المؤسسة العسكرية المنحاز لصالح الثورة في بداية الأمر لا يعدو كونه عملا كان مقصودا ومحسوباً توازناته للدفع نحو التغيير الذي تتطلبه المرحلة والتخلي عن مبارك الذي طالما ظل مدعوماً ومحتضنا من داخل تلك المؤسسة حتى يئس الشارع من التغيير، لكن ذلك الموقف المتواري للعسكر وفي حال دولة عتيدة التنظيمات السياسية المعارضة كمصر فانه بالضرورة سيُكشف تواري المجلس العسكري وفي اقرب وقت عندها سيكون من الصعب على العسكر حيازة المصداقية والقبول من قواعد الشارع وهو ما وصلت له الأوضاع المصرية الحالية ، واليوم وبعد مرور أكثر من عام ها هي جماهير الثورة تأتي لطلب استحقاقاتها التي يُمليها المنطق فيُكشر المجلس العسكري عن نابيه ليُبرز أن ما فات من مرحلة سقوط رموز النظام كان مطلوبا أو على أقل تقدير كان متغاضيا عنه كمرحلة من مراحل التغيير الكوني الذي تُدفع له المنطقة ومن ثم رسم سيناريو جديد يجب أن تمضي عليه مصر بغض النظر هل يمثل ذلك السيناريو التغييري جوهر طموح الجماهير ونخبها الوطنية التي ناضلت طويلاً أم لا ؟
إن هذه المرحلة من حراك أهلنا في مصر وطموحهم للتغيير الجوهري واستعادة الذات لا تتفق بأي حال من الأحوال وقرارات المجلس العسكري الأخيرة وتصرفاته بل على العكس من ذلك فما الذي يدفع بالعسكر للوقوف في وجه الجماهير ومحاولة استلاب ثورتهم وتطويعها قسراً ؟ وهل أن التصريحات الأخيرة للبنتاغون الأمريكي التي لوح فيها المتحدث باسمه من أن على المتحركين في الفضاء التغييري المصري من السياسيين أن يفصلوا في سعيهم إلى التغيير بين علاقة الولايات المتحدة بمصر في الجانب العسكري أي بالمجلس العسكري وبين علاقة الدولتين في المجال السياسي وهذا التصريح في حد ذاته لو روبط في توقيته المرحلي مع ما يدور على أرض الواقع من تصرفات المجلس العسكري وما اتخذه تحت ما يُسمى القرار الدستوري المكمل لكان واضحاً أن الإدارة الأمريكية تتبنى ما يدفع به العسكر من قولبة ثورة مصر ودفعها لما هو مخطط له رغم محاولات التورية أللفظية في نفس التصريحات التي ترمي للتغطية على موقف الإدارة الأمريكية الفعلي تجاه ما يُعد لمصر من سيناريو يراد لها أن تمضي فيه .
ومن الواضح الآن إن الولايات المتحدة والغرب لديهم مشروع استراتيجي بعيد المدى يُنفذ على خطوات ومراحل لخلق حالة من التغيير في الشرق الأوسط وهذا المشروع يختلف في تعاطيه وأسلوب إدارته من منطقة في الوطن العربي إلى أخرى وذلك لأسباب تفرضها المتغيرات العالمية وخصوصاً بعد فشل مخطط الاحتواء المباشر للأقطار من اجل فرض هيمنة القطب الواحد والخسائر الذي أحدثها غزو العراق في العجلة الأمريكية وما نتج عنه من اهتزاز في الاقتصاد العالمي و لا يخفى على المتتبع السياسي مقولة فلتمان عندما قال إن لدينا تصورا كاملا لما يدور من ثورات في الواقع العربي ونحن نتعامل مع ما يدور من ثورات حسبما تتطلبه خصوصية كل بلد ومما هو واضح أن الإدارة الأمريكية عازمة على التغيير بتصور استراتيجي جديد ومغاير يضمن استمرار تدفق مصالحها لعقود قادمة وأن تفاوت طبيعة الثورات العربية من واقع إلى آخر ومدى حجم واستراتيجية المصالح الأمريكية من قطر إلى آخر هي ما يجعل الإدارة الأمريكية والغربية متباينة في التعاطي بين موقع وآخر إلا أن الهدف الذي تم اتخاذه في كواليس صنع سياسة التغييرات واحد وهو الحاجة التي تفرضها طبيعة السيادة للتغيير وهم اليوم لا يدفعون في هذه المرحلة الأولية من المشروع إلا نحو كسر محورية القرار في البلدان وإيجاد بدائل جماهيرية تكون أكثر تعاطياً ومرونة في التكيف مع التغييرات المطلوبة.
إن الساسة الذين يستطيعون استقراء حركة التاريخ السياسي الاجتماعي للشعوب لديهم مقدرة خاصة للإطلال بعمق على بواطن الإحداث وهم قلة في كل جيل كما أنهم يستطيعون تقدير وتلمس الحاجة الأمريكية للسيادة الكونية واستمرار تدفق المصالح ويتعاملون مع السياسة بمنطقها البرغماتي الصرف ومن دون أي قيود عقدية أو مبدئية كما يستطيعون تقدير مدى نقاط التلاقي والاختلاف مع المشروع الأمريكي والتكيف مع حاجته ومن ثم ركوب موجته وهم أيضا يُقدّرون حجم الاستنزاف الذي تتطلبه الحاجة للتغيير وهي ضريبة لازمة له في عمل التمويه السياسي، وهذا النوع من الساسة القلائل هم من تكمُن الخشية منهم في استغلال أي موجة متحركة قادمة خصوصاً إذا تحصّل لهم أتباع ومريدون في قاعدة الجماهير الشعبية ، لقد قال ريتشارد هاس وهو احد المستشارين في الإدارة الأمريكية ومنذ العزم على صياغة الأفكار لمشروع التغيير هذا ما مفاده (إذا سيطرت الولايات المتحدة على الشرق الأوسط فإنها تشهد بذلك نهايتها وان الحرب على العراق هي بمثابة بداية النهاية وان حقبة في تاريخ المنطقة قد بدأت) وعلى ذلك فإن مشروع التغيير الأمريكي الغربي ماضً في أجندته لا محالة كما أن عملية استقراء تخلق واقع التوازنات والتقسيمات الدولية المستجد هو مرصود منذ فترة لدى جهابذة الفكر السياسي، وقد تطرقنا في مقالات سابقة بالإشارة إلى نزر يسير من تفاصيل تجلياته، واليوم ما قد يكون واضحاً في بلدان الثقل العربي المليوني أن مؤسسات العسكر في العقدين الماضيين قد حُدّثت وبُنيت أيديولوجيات أركانها وصفوفها على المفاهيم للتبعية الغربية ومن خلال تلك المؤسسات يُراد تمرير تلك التغييرات لضمان عدم انفلات الأمور بكل قطر، ففي تونس مثلاً هل فعلاً تخلى العسكر عن مساندة بن على تحت براءة الولاء للأمة المقدم على الولاء للحاكم وهو ما يُناقض الحالة التي عُرف بها من قبل في دعم بن علي ؟ونرجو ألا يُفهم من كلامنا هذا أن الشعوب وجيوشها متورطة بغير دراية في خيانة أوطانها وإنما حاجتها الماسة للتغيير هي ما قد حركها لذلك إنما الإدارات الغربية تعمل بمنطق صيرورة سياق التحول في التاريخ البشري وهي تركب موجة التغيير وتتبناه وتدفع به خدمة باستمرار مصالحها وتداركاً لعدم وصول الأوضاع للمرحلة التي تفقد فيها أي مقدرة باحتواء تلك الشعوب وتكييف ثوراتها وحاجتها ضمن المصلحتين الأمريكية والغربية، أن تصرفات المجلس العسكري المصري وقراراته تضع علامات استفهام بالغة العمق على المشهد الذي يُراد أن يكون عليه حال الأمة العربية وذلك لأن مصر هي البلد العربي المحوري الذي يتوقف عليه حال الأمة ويبدو أن المتآمرين مع المشروع الأمريكي للتغيير من داخل الدائرة المصرية قد نجحوا في امتصاص غضبة الجماهير الأولى واستطاعوا تفكيك الإجماع الشعبي حول تيار كان مرشحاً للإمساك بزمام غالبية القاعدة الشعبية وهو ما كان مقدراً للإخوان من حظوظ لولا أنهم تطيروا بالطموح للسيطرة على مغانم السلطة، وفي تقديرنا فانه اليوم وبعد نجاح المجلس العسكري فيما قد دبره من دفع بالأمور حتى اللحظة فان مشهد مصر سيكون مفتوحا على احد سيناريوهين وهما إما الانزلاق بالبلد لوضع الفراغ والتصادم الدموي مع غالبية قواعد الجماهير التي ستُعارض هذه العرقلة البيّنة للثورة من قبل العسكر، وإما النجاح في صياغة مصر بمشهد ليبرالي ممزوج بالإسلامية السياسية وطبعاً سيكون أكثر عدالة اجتماعية وتكافؤا للفرص من سابقه شريطة ضمان تمييع المواقف السياسية الخارجية للأمة المصرية وموقفها من جميع ملفات الوضع العربي وعلى رأسها الملف الفلسطيني، وهو ما سيُحقق ضمان استقرار رؤية الأمن الإسرائيلي الذي وصل إلى آخر مرحلة من اكتمال حلقات انسداده ومن دون أن ينجح عبر عقود في تغيير المشاعر العربية الجمعية تجاهه ، كما انه اليوم أيضا نعتقد مراهنة السياسات الأمريكية على استخدام ورقة الديمقراطية الداخلية للشعوب العربية كعامل استرضاء بديلا عن التطلع لحفز صنع سياسات بلدانهم على مستوى الخارج وبحكم ثورة الاتصالات الرقمية التي غيرت مفاهيم الأجيال وفتحت أبصارهم على العوالم الخارجية وسلوك شعوبها فان السياسات الغربية والأمريكية إذا قدّر لها النجاح ودونما ظهور عقبات مُناكفةً لها من قبل محاور دولية تسعى لفرض واقعها في عالم هذا التغيير الكوني فان المرحلة القادمة على الأمة ستكون من أولويات عملها بعد إشاعة الديمقراطيات في الداخل هو كيفية إفقاد الأمة ذاكرتها التاريخية، أما السيناريو الأول لو قدّر ودفعت له مصر فهو سيكون مرهونا بموقف الكتل السياسية المصرية ذات الثقل الجماهيري ومدى قبولها بمشروع العسكر لصياغة مشهد مصر القادم فان كان الرفض فان مصر ستُدفع للمواجهة مع العسكر وربما على الطريقة الجزائرية أو الحالة التركية السابقة مع التفاوت بالطبع في طبيعية التكوين النفسي والثقافي والاجتماعي والسياسي لتلك الحالات ومع الأخذ في الحسبان بحالة التماس الجغرافي المصري الإسرائيلي هنا وحاجة الأخرى للأمن ، ولذلك نحن نعتقد بقوة أن إسرائيل ستُعيد تشكيل لوائها العسكري الذي كان مشرفا على حماية حدودها مع مصر من جانب سيناء وربما تسعى مجددًا لوضع يدها على سيناء وذلك في حال انزلقت مصر لذلك السيناريو من المواجهة وبدا واضحًا تشرذم وضعها.
moc.liamtoh@dawsalanassah
.