الخليج والاقتصاد العالمي.. تغيرات النظام النقدي العالمي (٣-٤)
 تاريخ النشر : الجمعة ٦ يوليو ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
تناولت الحلقة الأولى من سلسلة حلقات "الخليج والاقتصاد العالمي" حقيقة التحول الجغرافي النظامي في الاقتصاد العالمي الحالي بانتقال مركز الجاذبية في هذا الاقتصاد شرقًا نحو القارة الآسيوية عن محوره الأطلسي التقليدي الذي يضم الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بفعل الصعود الاقتصادي القوي للاقتصادين العملاقين الصين والهند، مع التركيز في العلاقات الخليجية الصينية وآفاقها المستقبلية، فيما فندت الحلقة الثانية المزاعم حول أن الرمال الزيتية تهدد العصر الذهبي للخليج واقتصاده القائم على النفط.
أما هذه الحلقة فترصد تغيرات النظام النقدي العالمي وآثاره في دول الخليج، ولاسيما مع التحول الذي طرأ على تغير الخريطة الاقتصادية العالمية، وذلك استنادًا، كما في الحلقتين السابقتين، إلى ما طرحه الخبراء المشاركون في الندوة التي نظمتها وحدة الخليج بكلية لندن للاقتصاد التي تمول أنشطتها دولة الكويت، والتي جاءت تحت عنوان: "الخليج والاقتصاد العالمي".
تبيع دول مجلس التعاون الخليجي التي يقوم اقتصادها أساسًا على استخراج النفط والغاز وتصديرهما هذين النفط والغاز بالدولار الأمريكي، الذي ظل عملة العالم الرئيسية وأهم عملة مقاصة في السوق النقدية العالمية والمهيمنة على نحو ٠٨% من المعاملات اليومية في هذه السوق، غير أن التغير في المراكز الاقتصادية العالمية وصعود قوى اقتصادية أخرى أخذت تنافس بقوة الاقتصاد الأمريكي، وبروز حرب عملات ارتفعت فيها ضغوط القوى الاقتصادية العالمية في التحول نحو عالم متعدد العملات يعكس التعددية الاقتصادية القطبية.. كل ذلك يؤثر بشكل مباشر في الاقتصادات الخليجية التي تقوم بتوظيف متحصلاتها الدولارية في شراء ما تحتاج إليه وتمويل استثماراتها واحتياطياتها النقدية.
وبالرجوع قليلاً إلى الوراء، نجد أنه قبل انطلاق مشروع الاتحاد النقدي الخليجي والعملة الخليجية الموحدة ساد منطقة الخليج نقاشات كثيرة حول الإبقاء على الارتباط بالدولار أو التحول إلى سلة عملات، ولم تنتهج دول مجلس التعاون في هذا الشأن مسارًا واحدًا، وأبقى الكثير منها ربط عملته بالدولار الأمريكي، ذلك لأن من مصلحة كل دول العالم الإبقاء على قيمة هذه العملة؛ لأن كل من باع إلى الولايات المتحدة أو غيرها سلعًا أو خدمات بالدولار يعلم أن سقوط الدولار يعني ضياع أرباحه ومدخراته، وأن كل من اشترى سندات خزانة أمريكية يعلم أنه لا يمكنه التخلي عن الدولار كعملة دولية؛ لأن أمواله واستثماراته في هذه السندات ستصبح مهددة بالضياع حالة انهيار العملة الأمريكية، وهو ما يعني في الأخير أن انهيار الدولار يعني إذًا انهيار اقتصادات معظم دول العالم.
إنها النتيجة التي ترتبت على الحرب العالمية الثانية ومازالت مستمرة إلى يومنا هذا، فالولايات المتحدة خرجت من هذه الحرب منتصرة، ورغم أن الحلفاء كانوا منتصرين معها، فانها كانت الوحيدة المتعافية بينهم، وكلهم عانى الخراب وانخفاض المعروض السلعي ودمار البنية التحتية والبطالة الواسعة وتدهور أسعار صرف العملات وموازين المدفوعات وحركة رأس المال، فكان مؤتمر "بريتون وودز" ٤٤٩١ الذي خرج بوثيقة إنشاء صندوق النقد الدولي وسيطرت الولايات المتحدة على النظام النقدي العالمي بتحديد القيمة التبادلية لعملة أي دولة عضو مقابل الذهب كأساس مشترك أو بالدولار عند سعره في أول يوليو ٤٤٩١، واستمر العمل بهذا النظام حتى ١٧٩١ بعد أن أكملت أوروبا مراحل بنائها، وأخذت تتخلص من الفائض الدولاري لديها وتحوله إلى ذهب، وبدأت بوادر الضعف تدب في العملة الأمريكية، وقتها قررت الولايات المتحدة وقف تحويل الدولار إلى ذهب، وخفضت سعر الدولار مقابل الذهب بنسبة نحو ٨%، وسمحت لأسعار الصرف بأن تتقلب إزاء الدولار صعودًا وهبوطًا بنسبة ٥٢,٢%، وفي عام ٣٧٩١ أقدمت الولايات المتحدة على تخفيض سعر الدولار مرة أخرى بـ٠١، وبدأ العالم يهجر نظام سعر الصرف الثابت وتلجأ دول أوروبا إلى تعويم عملاتها، وساعدها على ذلك ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية.
وفي الثمانينيات ساد التعويم عملات العالم الرئيسية، وكان الخاسر الأكبر في هذه الفوضى النقدية البلدان النامية، ومنها بلدان مجلس التعاون الخليجي التي خسرت احتياطيها بسبب انخفاض سعر الدولار الأمريكي، كما ارتفعت أسعار وارداتها من دول العالم غير الولايات المتحدة، وساد الدول النامية في هذه الفوضى المالية مظاهر الالتجاء إلى التعويم، أو الدولرة، أو تهريب الأموال للخارج، أو الإسراف في المديونية الخارجية.
وفضلاً عن استعادة أوروبا الغربية لعافيتها الاقتصادية ثم بروزها كقوة اقتصادية موحدة فقد أخذت عمليات التنمية في آسيا الباسيفيكي وجنوب شرقي آسيا تبرز قوى اقتصادية جديدة سريعة النمو، مما دعا مع الضعف الذي أخذ ينتاب الاقتصاد الأمريكي وتحوله إلى اقتصاد استهلاكي شديد المديونية إلى الحديث عن ضرورة تنويع نظام العملات العالمية، والبحث عن أدوات فعالة لإدارة نظام السيولة العالمي، الأمر الذي سوف تكون له تبعاته على الدولار الأمريكي نتيجة تقليل اعتمادية الاقتصاد العالمي عليه.
ولكن واقع الحال يظهر صعوبات بالغة في هذا الشأن؛ حيث إنه من المستبعد أن يقبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إخضاع سياساته لحاجات الاقتصاد العالمي، كما أن الدولار مازال يمثل ما بين ٦٦ - ٥٧% من الاحتياطيات المالية لدى البنوك المركزية، ويستحوذ القطاع الرسمي العالمي على نصف سندات الحكومة الأمريكية الطويلة الأجل، فإذا ما أقدمت البنوك المركزية على بيع كم كبير من احتياطيها، فإن هذا يخلق اضطرابات هائلة وفوضى تكون هذه البنوك أكبر الخاسرين فيها، ورغم استمرار السلطات الأمريكية في زيادة الدين الحكومي مع ما يثيره هذا الوضع من قلق هذه البنوك، فإنه لايزال إلى الآن لا يوجد بديل عن الدولار، فلا يوجد إجماع دولي على استحداث عملة بديلة حتى لو كانت حقوق السحب الخاصة، ويصبح البديل الوحيد الممكن هو تشجيع استخدام العملات الأخرى التي يمكن أن تلعب دورًا مكملاً وليس بديلاً عن الدولار في نظام عالمي متعدد العملات، ويبقى الدولار الأمريكي عملة الاحتياطي المهيمنة في الوقت الطويل الذي يأخذه العالم في بناء إدارة نظام للعملات الرئيسية المتعددة الذي يعكس تغيرات مراكز القوة الاقتصادية العالمية، ومن بين الحلول المقترحة في هذا الشأن تشجيع الصين للانضمام إلى نظام حقوق السحب الخاصة، وهي عملة حسابية أنشأها صندوق النقد الدولي في ٩٦٩١، وتدويل العملة الصينية اليوان.
بيد أن الولايات المتحدة التي تأخذ من كون الدولار غير المغطى بالذهب عملة العالم الرئيسية مرتكزًا استراتيجيًّا لتربعها على عرش العالم كقطبه الوحيد غير القابل للمنافسة، أخذت مع هذه الضغوط في شن حرب عملات عن طريق خفض سعر عملتها الدولار وخفض سعر الفائدة، وهي تتهم الآخرين بشن هذه الحرب، وتسعى من وراء تخفيض سعر الدولار إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وتجارية هائلة على حساب الدول الأخرى ومنها بلدان الخليج العربي التي تنخفض نتيجة لذلك قيمة احتياطيها واستثماراتها، كما ترتفع قيمة وارداتها من الدول الأخرى غير الولايات المتحدة، وتخفيض قيمة الدولار يجعل السلع الأمريكية أقل سعرًا والاستثمار في الولايات المتحدة أقل كلفة، ولكن هذه السياسة تضر الدول الأخرى المعتمدة على التصدير فتلجأ بشكل مقابل إلى تخفيض قيمة عملاتها، بما يدخل العالم في حرب عملات المتضرر منها أساسًا البلدان النامية التي ترتبط عملاتها بالدولار، فهذه الدول أجبرت على تخفيض أسعار الفائدة لديها مما ضرب الادخار فيها في مقتل، كما جعل صادرات هذه البلدان أقل تنافسية، والأكثر بروزًا حاليًّا في حرب العملات الولايات المتحدة والصين، فالأولى تتهم الثانية بأن عملتها مقيمة بأقل من حقيقتها بنسب من ٥٢ - ٠٤%، غير أن الصين التي لديها احتياطي دولاري ضخم يقارب ٣ تريليونات دولار قد وجدت أنه حتى تحافظ على السوق الأمريكية كسوقها الرئيسية وأن تحافظ على قيمة مدخراتها أنه من الأنسب لها إقراض الحكومة الأمريكية عن طريق شراء المزيد من سندات هذه الحكومة التي تستخدمها في تمويل إنفاقها العام وفي ضخ السيولة المطلوبة لضمان مستوى الطلب العالي والمساعدة على الإبقاء على مستويات منخفضة لأسعار الفائدة للتوسع في الاستثمار.
وهذا الأمر أتاح للصين الاستمرار في تحقيق معدلات النمو العالية برغم الأزمة المالية العالمية وتداعياتها المستمرة إلى يومنا هذا، والصين في هذه الحالة قد أصبحت تملك رادعا اقتصاديا إزاء الولايات المتحدة؛ حيث بات استمرار إنقاذ الاقتصاد الأمريكي بيدها، لهذا فإن التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات اقتصادية على الصين لم تتعد حيز الأقوال، ولكن في الوقت نفسه تسعى الصين مع القوى الاقتصادية الأخرى إلى تخفيض الوزن النسبي للدولار في الاحتياطيات الدولية بعد أن فقدت العملة الأمريكية أكثر من نصف قيمتها، وقد بدا أن مشكلة الاقتصاد الأمريكي ليست اليوان الرخيص ولكن في مجمل السياسات التي انتهجتها الإدارة الأمريكية وجعلتها محملة بديون هائلة، وهي السياسات التي تضمنت مؤخرًا طبع ٠٠٦ مليار دولار لشراء قسم من سندات الدين، مما أدى إلى مزيد من تدهور الدولار، وما لم تقدم الولايات المتحدة على الخروج من سياسة إدمان الاقتراض الذي وصل إلى مستويات خطرة، فإن الأسواق المالية سوف تقوم بهذه المهمة، وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى ارتفاع الديون الفيدرالية بنسبة ٠٠١% بحلول ٥١٠٢، وبينما يقدر حجم الدين الخارجي الأمريكي حاليًّا بخمسة تريليونات دولار يبلغ إجمالي الدين العام الأمريكي نحو ٥٤,٩ تريليونات دولار.
وهكذا، فإنه مع فقدان قيمة الدولار لعنصر الثبات والاستقرار ومحافظته على القيمة والقبول الدولي تزداد الشكوك حول استمراره كمحور للنظام النقدي العالمي ومحور مقاصة، وتبدو الخيارات إلى الآن إما في العودة إلى نظام الذهب، وإما اعتماد عملة دولية مكونة من وحدات حقوق السحب الخاصة، أو اعتماد ثلاث عملات رئيسية وهي الدولار واليورو والين أو اليوان، وكل حل من هذه الحلول مازالت تكتنفه صعوبات كثيرة، ومازال العالم رغم أنفه مجبرًا على الاستمرار في نظام الدولار، رغم ما تؤدي إليه حرب العملات من خسائر على دول العالم أبرزها التضخم وتآكل قيمة الاحتياطيات الدولارية وارتفاع قيمة فاتورة الاستيراد.
ولعل انصياع العالم للارتباط بالدولار رغم هذه الخسائر ينبع من حقيقة أنه رغم هذه الخسائر فإن اللاعبين الرئيسيين في الاقتصاد العالمي لم يمارسوا احتجاجًا ذا شأن، فدول الخليج النفطية تخشى تسعير نفطها بعملة بديلة، والصين تريد الاحتفاظ بموقعها في السوق الأمريكية، ومن مصلحة الدائنين استمرار مساندتهم للدولار للحفاظ على قيمة ديونهم، والنقود التي تطبعها الإدارة الأمريكية تعتمد على الدائنين أنفسهم في شرائها، وكلما احتاج الاقتصاد الأمريكي إلى سلع أو خدمات لجأ إلى الاستيراد من الخارج ودفع قيمة وارداته دولارات، ويغطي بنك الاحتياط الفيدرالي هذه الدولارات بسندات خزانة يباع أغلبها للمستثمرين الأجانب، وحين تستثمر دول مجلس التعاون الخليجي أغلب فوائضها المالية في الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى نحو ٠٧% من جملة استثماراتها وتبلغ قيمتها نحو تريليوني دولار، فإنها تبني على قناعة أن الدول الدائنة للاقتصاد الأمريكي لابد أن تقوم بإنقاذه محافظة على قيمة ديونها، ومن ثم المحافظة على قيمة الاستثمارات الخليجية والمدخرات الدولارية الخليجية، ولكن هذا الوضع غير قابل للاستمرار بزيادة قيمة ونسبة المعاملات الدولية بعملات غير الدولار، وزيادة نسبة هذه العملات في الاحتياطيات الدولية، الأمر الذي ينبغي أن تتحسب له البلدان الخليجية
.