الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٣٤ - الثلاثاء ١٧ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٧ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

مقال الاستاذ فهمي هويدي


ألغام عودة مصر للعرب





حين أعادت الثورة مصر إلى المصريين، فإن ذلك بدا تمهيدا لعودة مصر إلى العرب، الأمر الذي من شأنه إذا استقام واستقر أن يحدث تحولا استراتيجيا كبيرا في خرائط الإقليم.

(١)

لا مفر من الاعتراف بأن مصر العائدة تعاني من التشولاه والتكبيل، ليس ذلك فحسب ولكن العالم المحيط الذي خرجت منه صار مختلفا كثيرا عن العالم الذي عادت إليه. فقد أنهكتها وقزمتها سنوات الاستبداد والعزلة. الكل يعرف ما فعله الاستبداد بمصر، لكن العزلة هي التي تهمنا في سياق الخارج الذي نحن بصدده. وكنت قد أشرت قبلا إلى أن عزلة مصر وانحسار دورها في العالم العربي بدأ مع توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في عام .١٩٧٩ ولم تكن تلك مجرد مصادفة، لأن الاتفاقية لم تكن إعلانا عن مغادرة الصف العربي والاصطفاف مع الولايات المتحدة وإسرائيل فحسب، ولكنها كانت أيضا انصياعات للإرادة الأمريكية الداعية إلى انكفاء مصر على ذاتها والتخلي عن دورها في العالم العربي بل عن ارتباطها بالقضية الفلسطينية. وليس ذلك مجرد استنتاج أو استقراء للأحداث، ولكنها معلومات صرح بها الذين تابعوا محادثات وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مع الرئيس الأسبق أنور السادات في أسوان (المشير عبدالغني الجمسي والأستاذ محمد حسنين هكيل). وكان الدكتور جمال حمدان قد أشار إلى هذا المعنى في الجزء الثاني من مؤلفه "شخصية مصر" حين قال ما نصه إن "عزلة مصر كانت دائما نتيجة لارتباطها بالغرب".

مصر العائدة تواجه تحديات استعادة العافية في الداخل التي سبق الحديث عنها. لكنها تواجه تحديات مماثلة في سياستها الخارجية، التي تتمثل في استقلال قرارها السياسي، وفك ارتباطها بالاستراتيجية الأمريكية وبالتنسيق الأمني مع إسرائيل.

العالم المحيط الذي تعود إليه مصر تغير بدوره. فقد سقط الظهير السوفياتي وانفردت الولايات المتحدة بإدارة العالم. لكنها مع ذلك تعاني من الضعف النسبي، هي وبقية الدول الأوروبية، جراء الأزمة الاقتصادية التي قصمت ظهر الجميع، وفي المنطقة المحيطة. فقد أصبحت إيران وتركيا أهم لاعبين سياسيين في الشرق الأوسط، أما أفريقيا فقد خرجت منها مصر بدورها ثم خاصمتها بعد محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك حين ذهب لحضور القمة الأفريقية في أديس أبابا عام .١٩٩٥

العالم العربي تغير بدوره كثيرا خلال سنوات الفراغ التي غابت فيها مصر واستقالت من موقع القيادة. فقد بسطت الهيمنة الأمريكية سلطانها عليه، حتى أصبحت واشنطن صاحبة القرار في أهم قراراته السياسية. وفي غياب مصر أصبحت المملكة السعودية صاحبة الكلمة الأولى في الجامعة العربية. وبرز الدور القطري في بعض الساحات. ولاحظنا حضورا لدولة الإمارات في ساحات أخرى، في حين غرقت العراق في مشاكلها الداخلية وكذلك سوريا واليمن. أما السودان فقد انشطر نصفين بانفصال جنوبه. أما دول الشمال الأفريقي فلم تحدث فيها تحولات جوهرية باستثناء الثورتين التونسية والليبية.(٢)

لا تستطيع مصر أن تستعيد موقعها في العالم العربي وفي الإقليم برمته إلا إذا استعادت قوامها وكرامتها. واستعادة القوام مرهونة باستقرار أوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية. واستعادة الكرامة مرهونة باستقلال إرادتها، وتخليها عن التعهدات التي قيدتها وربطتها بالذين لا يريدون لها أو للعرب خيرا. وللدكتور جمال حمدان تشخيص جارح في هذا الصدد، قال فيه إن هؤلاء لا يريدون لمصر دور القيادة، ولكنهم يفضلون استتباعها لتقوم بدور "القوادة"!

إذا قدمت مصر النموذج الذي يشرفها أولاً، فإن العالم العربي يتوقع منها سياسة رشيدة تتحرى مصالح الأمة، وحضورا فاعلا في سياسات الإقليم، واحتراما للأشقاء يطمئنهم ويحول دون التدخل في شئونهم من أي باب. فإن الصورة ليست بذات الدرجة من الوضوح في بعض الدوائر العربية. ذلك التي من متغيرات الإقليم التي شهدتها المنطقة خلال الثلاثين سنة الماضية، إن الأشقاء الصغار كبروا وصاروا أكثر فتوة وثراء. ثم إنهم انخرطوا خلال تلك الفترة في التحالفات وشبكات المصالح الإقليمية والدولية، الأمر الذي أحدث خللا في موازين القوة بالعالم العربي. وفي ظل ذلك الخلل أصبح الدور المصري غير مرحب به لدى البعض، ومحل منازعة من جانب البعض الآخر.

في هذا الصدد وقعت على مقالة نشرتها صحيفة الحياة اللندنية (في ٢/ ٧) لأحد الأكاديميين السعوديين، الأستاذ عبدالله ناصر العتيبي، كان عنوانها: "ماذا يريد الخليجيون من مرسي الإخوان" (الرئيس المصري المنتخب). تحدث فيها عن أربعة ملفات اعتبرها رئيسية يطلب الخليجيون أن تحدد مصر موقفها منها هي:

} ملف العلاقات مع إيران، حيث لا يريد الخليجيون أن تكون مصر عونا لإيران عليهم.

} الملف الثاني يتمثل في عدم التدخل الإخواني في الشئون الداخلية لدول الخليج.

} ملف العلاقات "التركية - الإخوانية". فالخليجيون يريدون أن يطمئنوا - والكلام له - إلى عدم تلاقي الرغبة في إحياء الخلافة العثمانية مع الهوى الإخواني. وذلك يتطلب وجود ضمانات تحترم وجود وبقاء الكيانات الموجودة على الخريطة العربية حاليا.

* الملف الرابع يتمثل في انحياز مصر لأحد طرفي النزاع في القضية الفلسطينية، إذ ارتأى أنه لا ينبغي للتوافق الأيديولوجي الإخواني مع حركة حماس ان يدفع السلطة في مصر إلى إقصاء حركة حماس من المشهد الفلسطيني.

أدري أن صاحب المقال ليس مسئولا في الدولة، وأنه يعبر عن اجتهاده الخاص الذي لا يلزم أحدا غيره، لكنني أزعم أنه يعبر عن نمط في التفكير يسود بعض الدوائر الخليجية، التي أصبحت ترى أن بمقدورها أن توجه "النصائح" للشقيقة الكبرى أو تتحدث عن شروط لإقامة علاقات إيجابية مع مصر بعد الثورة. ومن الواضح أن هذه المطالبات تندرج ضمن الهواجس والمخاوف المثارة من صعود حركة الإخوان ووصول أحد أعضائها إلى منصب رئاسة الجمهورية.

(٣)

النقطة الوحيدة التي تستحق أن تؤخذ على محمل الجد فيما سبق، هي تلك التي تتعلق بعلاقة مصر بإيران، التي يبدو أنها تحولت إلى خط أحمر غير مسموح لمصر بأن تقترب منه فضلا عن أن تتجاوزه. أما الملفات الثلاثة الأخرى فما يستحق أن يعتبر منها هو الدعوة إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية الخليجية. أما مسألة إحياء الخلافة العثمانية فهي أقرب إلى النكتة منها إلى أي شيء آخر، لأن هذا الموضوع ليس مطروحا في تركيا أصلا، إلا في حدود المنابر الإعلامية المعارضة التي دأبت على الغمز والتشهير بحكومة حزب العدالة والتنمية، إضافة إلى أنها من الدعايات التي تستهدف التخويف من الانفتاح التركي على الفضاء العربي، الذي هو اقتصادي بالدرجة الأولى. ليست بعيدة عن النكتة أيضا مطالبة مصر بالحياد في الملف الفلسطيني، الذي يتصور الكاتب المحترم أنه موضوع أيديولوجي، في حين أنه وثيق الصلة بأمن مصر والتزامها القومي، الذي تقدره السياسة المصرية في ضوء حسابات المصلحة العليا للبلد والأمة العربية.

رغم أن فتح ملف إيران بكامله ربما كان مبكرا في أولويات السياسة الخارجية المصرية، فإنني استغرب أن يفزع بعض العرب لإقامة علاقات مصرية مع إيران، في حين لا يزعجهم أن يتم التطبيع بين مصر وإسرائيل. كما أنني استشعر خجلا من أن تكون لكل دول العالم علاقات دبلوماسية طبيعية مع إيران باستثناء ثلاث دول هي: الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ومصر. (المملكة المغربية لديها مشاكل مع طهران ولم تقطع العلاقات معها). استغرب أيضا أن تقيم كل دول الخليج علاقات دبلوماسية واقتصادية وطبيعية مع إيران، وتكون التجارة في أعلى معدلاتها بين الطرفين (حجم التبادل التجاري مع إيران يتراوح بين ١١ و١٣ مليار دولار) - يحدث ذلك مع الخليج لكنه يستكثر ويستنكر إذا حدث مع مصر.

أما ما يثير الدهشة حقا هو ذلك الادعاء بأن أي علاقات تقيمها مصر مع طهران لابد أن تكون عونا لإيران على الخليج، وهو كلام معيب لا يصح أن يقال بحق دولة مثل مصر، التي تدرك جيدا أن انتماءها العربي والوطني مقدم على أي انتماء آخر.

في هذا السياق، لا مفر من الاعتراف بأن دوائر عربية عدة لم تسلم من التشوه الذي أصاب البعض في مصر، ممن أقنعتهم التعبئة الإعلامية الماكرة بأن الأعداء ثلاثة هم إيران وحزب الله وحماس، أما إسرائيل فهي خارج القائمة. ومن ثم علينا أن نقتتل فيما بيننا ولها أن تقف متفرجة على ما أصابنا من جنون وبلاهة.

ما أفهمه أن إقامة العلاقات بين الدول لا تعني أن ثمة اتفاقا بينها في القضايا السياسية، وفي حالة مصر وإيران فإنني لا أشك في أن العلاقات السوية بين البلدين يمكن أن تكون تأمينا لدول الخليج ومفتاحا لحل خلافاتها أو هواجسها إزاء إيران. إلا أنني أخشى أن يكون أمن الخليج مجرد ورقة تستخدم للضغط على إيران ومحاولة إسقاط نظامها، لأن المشكلة الحقيقية ليست بين طهران ودول الخليج، ولكنها بينها وبين الولايات المتحدة وإسرائيل. وللأسف فإن العالم العربي بأسره يستخدم كعنصر ضغط في ذلك الصراع، الذي ليس للعرب فيه ناقة ولا جمل.

(٤)

إحدى الخلاصات المهمة التي ينبغي الخروج من فتح ملف السياسة الخارجية لمصر ما بعد الثورة أنه إذا كانت عودة الروح إلى مصر الحقيقية إلى شعبها غير مرحب بها من جانب القوى الدولية وبعض قوى الإقليم، فإن عودة مصر العربية لابد أن تكون محل رفض ومقاومة. ليس لأنها ستسعى بالضرورة إلى خوض الصراع ضد تلك الدول، ولكن ببساطة لأن تلك العودة ستوقظ الأمة بأسرها، الأمر الذي يفتح الباب لنهوضها وينهي عصر هيمنة واستعلاء الذين تغولوا وتمكنوا وعربدوا في داخل مصر وخارجها طوال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية.

إزاء ذلك فلابد أن نتوقع من تلك القوى دفاعا عن مصالحها، لا يتحقق إلا بتحجيم مصر وحصارها لكي تعود إلى عزلتها وضعفها. وهذه هي الجولة التي ينبغي أن تكسبها مصر وهي تسعى إلى ترتيب أوضاعها في الداخل.

إن العقلية الاستعمارية التقليدية تعتبر أن بلدا في أهمية مصر له ثراؤه المشهود بأمر الجغرافيا وخبرة التاريخ لا يمكن أن يترك مستقلا. وهو ما أفاض فيه الدكتور جمال حمدان في كتابه الذي استشهد فيه بآراء السياسيين الغربيين. لكن ذلك ليس قدرا مكتوبا، وانما هو جزء من التحدي الذي على مصر أن تواجهه وهي تدافع عن كبريائها واستقلالها. هم لا يريدون حقا لكن الشعب يريد. وحينئذ لابد أن يستجيب القدر.



























.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة