رحلة إلى روح فيتنام.. وروح العالم -١ فيتنام التي نعرفها.. فيتنام التي لا نعرفها
 تاريخ النشر : الاثنين ٢٣ يوليو ٢٠١٢
بقلم:السيد زهره
قضيت مؤخرا برفقة وفد ضم عددا من الزميلات والزملاء الصحفيين العرب ستة ايام في فيتنام، وتحديدا في مدينة «هو شي منه» ؟ سايجون سابقا ؟ والمناطق المجاورة لها في الجنوب الفيتنامي.
الزيارة كانت بدعوة من «شركة طيران الامارات»، بمناسبة تسيير رحلات يومية إلى مدينة هو شي منه.
على الرغم من ان الزيارة كان لها طابع سياحي عام، أي لزيارة عدد من المعالم والمواقع المعروفة في هو شي منه، ولم تكن تشمل مثلا أي لقاءات مع مسئولين او أي انشطة تتيح التعرف على الاوضاع السياسية في البلاد.. على الرغم من هذا، كانت الرحلة بالنسبة إلي فرصة فريدة للتعرف ولو بشكل سريع، على شعب عظيم لا نعرف عنه الكثير اللهم الا من خلال قراءاتنا العامة، وللتعرف على جوانب من تاريخه وعن واقعه اليوم، وللتعرف على بعض جوانب المجتمع والحياة، والواقع السياسي والاقتصادي ايضا في فيتنام اليوم.
وفي هذه المقالات سوف احاول ان اقدم محصلة لمشاهداتي، وللانطباعات العامة التي خرجت بها ازاء هذه القضايا ومن الرحلة عموما.
فيتنام التي لا نعرفها
في الطريق إلى فيتنام كنت اتساءل: ترى، كيف هي فيتنام التي لا نعرفها؟.. كيف تبدو اليوم بالضبط؟
فكرت في هذا التساؤل لأن هناك فيتنام اعرفها ونعرفها جميعا ويعرفها العالم كله.
من في العالم لا يعرف فيتنام الحرب وفيتنام المقاومة؟
من في العالم لا يعرف فيتنام التي قاومت وحاربت واستطاعت في غضون نحو ثلاثة عقود ان تلحق الهزيمة بقوتين استعماريتين كبيرتين هما فرنسا وامريكا؟
من في العالم لا يعرف فيتنام التي خاضت واحدة من اطول وافظع الحروب في عصرنا الحالي ضد قوة همجية هي امريكا، والحقت بها في نهاية المطاف هزيمة تاريخية مذلة؟
بالمناسبة، هم في فيتنام يرفضون تماما استخدام تعبير «حرب فيتنام» عند الحديث عن هذه الحرب. بالنسبة إليهم، وعن حق بالطبع، هي حرب الامبريالية الامريكية ضد فيتنام.
من في العالم لا يعرف فيتنام التي تسببت لأكبر قوة في العالم هي أمريكا بـ«عقدة» تاريخية» هي ما اصطلح على تسميته بـ «عقدة فيتنام»، التي مازالت تعانيها أمريكا حتى يومنا هذا؟
هذه هي فيتنام التي نعرفها ويعرفها العالم كله.
اجيال كاملة عايشت مع فيتنام حربها، وعرفت اسماء قادة المقاومة الكبار، وتابعت فصول الحرب فصلا بعد فصل حتى تحقق الانتصار التاريخي المدوي.
لكن هناك فيتنام اخرى لا نعرفها، ولا يعرفها الكثيرون في العالم.
نحن نعرف فيتنام التي انتصرت والحقت الهزيمة المذلة بأمريكا. لكننا لا نعرف بالتفصيل، كيف تحقق هذا الانتصار بالضبط؟.. أي شعب هذا الذي صمد كل هذه السنين في مواجهة الهمجية الامريكية؟.. أي ثقافة وحضارة تفسران هذين الصمود والانتصار؟.. أي عبقرية عسكرية بالضبط تمكنت من هزيمة اكبر قوة عسكرية في العالم؟
بالطبع، نحن نعرف شيئا من هذا من قراءاتنا العامة فقط، غير ان ما نعرفه من القراءة غير ما يمكن ان نعرفه من مشاهداتنا في الواقع العملي.
ونحن ايضا لا نعرف الكثير عن فيتنام ومسيرتها منذ ما بعد الانتصار ونهاية الحرب حتى اليوم.. كيف واجهت الدمار الشامل والواقع المأساوي الذي خلفته الحرب وتعاملت معه؟..كيف تطورت تجربتها في الحكم؟.. إلى اين وصلت جهودها في مجالات البناء والتنمية والانجاز ؟.. وهكذا.
في الطريق إلى فيتنام، فكرت في هذه التساؤلات، وفي ان هذه الزيارة القصيرة ربما تكون فرصة مواتية للتعرف ولو بشكل سريع بالضرورة على فيتنام الاخرى هذه التي لا نعرفها.
روح فيتنام
مدينة هو شي منه التي زرناها، هي اكبر مدن فيتنام. هي مدينة سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا، وفي اعقاب التحرير وتوحيد فيتنام اسميت باسم الزعيم الفيتنامي التاريخي الكبير هو شي منه.
ومدينة هو شي منه هي العاصمة الاقتصادية والقلب الاقتصادي لفيتنام. فيها توجد المناطق الصناعية واكبر مناطق الاستثمار المحلي والاجنبي، وفيها توجد مقار المؤسسات الاقتصادية الكبرى. وايضا، المناطق المحيطة بها هي اكبر المناطق الزراعية في البلاد، وحيث مازالت الزراعة تمثل عماد الاقتصاد.
في الماضي، كان يطلق على سايجون «لؤلؤة فيتنام» احيانا، و«روح فيتنام» احيانا اخرى.
ربما كانوا يطلقون عليها «روح فيتنام» بسبب مكانتها الاقتصادية، وكونها تمثل عصب الاقتصاد. وربما كانوا يطلقون عليها ذلك بسبب ارثها التاريخي والثقافي والحضاري الطويل، وحيث مثلت دوما جوهر روح الشعب الفيتنامي بثقافته وتقاليده الحضارية.
لكن، مع الحرب المريرة الطويلة مع الامبريالية الامريكية وما شهدته عبر سنين طويلة، اصبح لتعبير «روح فيتنام» في وصف مدينة هو شي منه والمناطق التابعة لها، معنى آخر عميق وانساني.
اصبحت المدينة والجنوب الفيتنامي كله، تجسيدا لروح الشعب الفيتنامي ولارادته الوطنية. اصبحت المدينة رمزا وتجسيدا لروح الصمود في مواجهة الغزاة وهمجيتهم، وفي الاصرار على طردهم والانتصار عليهم في النهاية.
وبعد الحرب، اصبحت المدينة رمزا لروح وارادة البناء والحياة من جديد.
وبهذا المعنى تحديدا، تعتبر مدينة هو شي منه ليست تجسيدا فقط لروح فيتنام، وانما لروح العالم كله.
وماذا تكون روح العالم والبشرية الا الصمود والمقاومة والدفاع عن الوطن، والاصرار على الحياة والتقدم بعد ذلك؟
اربع محطات في الزيارة، أي اربع اماكن قمنا بزيارتها، تجسد معا هذه الروح التي تمثلها مدينة هو شي منه.
اربع محطات تلخص روح شعب فيتنام، ومسيرته الصعبة المؤلمة عبر عقود دفاعا عن الوطن ومن اجل هزيمة الغزاة، واعادة الحياة والبناء من جديد، ومن الصفر تقريبا.
هذه المحطات الاربع التي سأتوقف عندها، هي:
١ - انفاق المقاومة في مدينة كو تشي، جنوبي هو شي منه.
هذه الانفاق تمثل معجزة شعب في المقاومة والصمود.
٢ ؟ متحف الحرب في المدينة، الذي يمثل توثيقا وتجسيدا لما بلغته أمريكا من وحشية وهمجية.
٣ ؟ قصر الاستقلال، او قصر اعادة التوحيد، الذي شهد لحظة التحرير والانتصار الكبرى.
٤ ؟ محمية كان جيو الطبيعية، التي تعد رمزا للحياة بعد الحرب.
الماضي لا وجود له
سأتوقف في المقالات التالية بشيء من التفصيل عند هذه المحطات الاربع وغيرها من المحطات.
لكن قبل هذا، اود ان اسجل انطباعا عاما خرجت به من زيارة هذه المحطات الاربع وغيرها من الاماكن التي زرناها، ومن الرحلة عموما ومشاهداتي اثناءها، وايضا من الاحاديث مع الفيتناميين.. الانطباع العام الذي خرجت به، انه في فيتنام، الماضي لا وجود له.
الماضي لا وجود له في فيتنام، لأنه ببساطة لم يصبح ماضيا بعد.. لم يبرح الذاكرة ابدا.. هو حاضر بكامل هيئته وبكل قوة.
ما من مكان سياحي تذهب اليه، الا وله صلة بالحرب من هذه الزاوية او تلك.
ما من شارع تمشي فيه الا وتجد ما يذكرك بالحرب.
ما من فيتنامي تتحدث اليه في أي موضوع على الاطلاق، الا ويتطرق الحديث حتما إلى الحرب.
قرأت لبعض الكتاب الفيتناميين وغير الفيتناميين انتقادا لهذا الحضور الطاغي للماضي في الحياة الفيتنامية، اذ يعتبرون انه آن الاوان ليس لنسيان الماضي، لكن للتركيز على الاقل على الحاضر بتعقيداته ومشاكله.
لكن يبدو لي ان هذا الحضور الطاغي للماضي، ولفترة الحرب خصوصا، من السهل تفسيره.
تجربة فيتنام في الحرب الطويلة التي خاضتها مع أمريكا كانت تجربة مريرة مؤلمة.
لم تكن هذه حربا بين جيشين انتصر فيها جيش وهزم آخر. كانت هذه حرب ابادة همجية بكل معنى الكلمة شنتها أمريكا على الشعب الفيتنامي كله، وقاومها الشعب الفيتنامي بكل مخزونه الحضاري وبكل قدرات ابنائه.
الفيتناميون حين يتحدثون عن الحرب يتحدثون عن حرب كان ضحيتها كل اسرة فيتنامية بالمعنى الحرفي للكلمة.
ليست هناك اسرة فيتنامية واحدة الا ومن بين ابنائها قتلى او جرحى او معوقون، او شاركوا في المقاومة. ليست هناك اسرة فيتنامية الا ودمر الهمج الامريكان منزلها، او ابادوا مزارعها وتشرد ابناؤها.
اعني ان هذا الحضور الطاغي للماضي وللحرب بالذات هو امر لا يتعلق برغبة او توجه حكومي، بقدر ما يتعلق بذاكرة جماعية للشعب الفيتنامي مازالت حية وحاضرة.
وغير هذا، الفيتناميون يستمدون من فترة الحرب وذكرياتها بكل ما فيها من آلام، وايضا من مقاومة وصمود، عوامل محفزة إلى البناء والتقدم اليوم.
لقطات وانطباعات
-بدأت شركة طيران الامارات مؤخرا تسيير رحلات يومية من دون توقف إلى مدينة هو شي منه. الشركة اعلنت ان تسييرها لهذه الرحلات جاء من منطلق ان مدينة هو شي منه تعتبر من انشط المدن في منطقة جنوب شرقي آسيا، وهي العاصمة الاقتصادية لفيتنام، وايضا للعلاقات التجارية والاقتصادية المتنامية بين الامارات وفيتنام، اذ بلغت قيمة المبادلات التجارية بين الامارات وفيتنام اكثر من ١,٢ مليار دولار في عام .٢٠١١
وبتسيير هذه الرحلات إلى هو شي منه، يرتفع عدد المدن التي تخدمها طيران الامارات في الشرق الاقصى إلى ١٣ مدينة في ١٠ دول.
وبتسيير هذه الرحلات إلى هو شي منه، اصبحت فيتنام مرتبطة بسهولة مع مختلف محطات شبكة الشركة التي تضم ٣١ مدينة في اوروبا و١٨ في إفريقيا و١٧ في الشرق الاوسط و١١ في أمريكا الشمالية والجنوبية و١٩ في غرب آسيا والمحيط الهندي.
على الرغم من ان هو شي منه هو الاسم الرسمي للمدينة،فان الكل تقريبا في فيتنام لا يستخدم هذا الاسم، وانما يستخدمون الاسم القديم، أي سايجون.
والمحلات التجارية الكثير منها يحمل اسم سايجون.
- اغلب شوارع هو شي منه والمدن الفيتنامية الاخرى تحمل اسماء الابطال الذين قتلوا في فترة المقاومة للغزو الامريكي. هؤلاء لهم مكانة كبيرة جدا في الذاكرة الفيتنامية.
- «اسم «فيتنام» اعتمده الإمبراطور جيا لونج كاسم رسمي للبلاد عام ١٨٠٤، وهو تعديل لاسم «نام فييت» اي (فييت الجنوبية) الذي استخدمته البلاد اسما لها في عصورها القديمة. وفي عام ١٨٣٩ عدل الإمبراطور «منه مانج» اسم الدولة إلى «داي نام» (أي الجنوب العظيم) ثم عاد الاسم مرة أخرى إلى «فيتنام» رسميا عام .١٩٤٥
- اللغة الفيتنامية هي اللغة الرسمية الوطنية في فيتنام، وفي بداية تاريخها كانت فيتنام تستخدم الحروف الصينية، ثم بدأ الفيتناميون تطوير حروف اللغة الفيتنامية الخاصة بهم منذ القرن الثالث عشر الميلادي. أما اليوم فهي تُكتب بواسطة أحرف لاتينيّة مع علامات صوتية إضافية لبعض الألفاظ. المبشرون الكاثوليك بدأوا في القرن السادس عشر الميلادي تحويل اللغة إلى نظام صوتي لا يستعمل الأحرف الصينيّة. ويعد المبشر الفرنسي الكساندر دو رهودس هو أول من ألف معجما لِلّغة باستخدام الحروف اللاتينية. وقد بدأ الاستعمال الفعلي للحروف اللاتينية في النظام التعليمي الرسمي منذ عام .١٩١٨
مرافقنا قال إن اللغة الفيتنامية مازالت تتغير وتتطور باستمرار وخاصة بعد الانفتاح الكبير على العالم. قال مثلا لا توجد في اللغة الفيتنامية حرف دبليو وحرف زد، لكن لابد من استخدامهما في مواقع الانترنت.
- المنظمون للرحلة حرصوا على ان نتناول وجبات الغداء والعشاء في مطاعم فيتنامية تقدم الطعام الفيتنامي التقليدي، وهي تجربة لم تكن مرضية تماما بالنسبة الينا بسبب النكهة التي لم تكن مستساغة لنا بطبيعة الحال.
يلفت النظر في الاكلات الفيتنامية اولا ان الارز هو سيد المائدة بلا منازع. من الارز يصنعون عشرات الاكلات، ابتداء من الخبز حتى اطباق الارز بأشكال ونكهات متنوعة، واللفائف والحلوى.. الخ. ايضا السمك مكون اساسي من مكونات المطبخ الفيتنامي. وهم تقريبا لا يستخدمون الخبز على المائدة باستثناء خبز الارز طبعا. ايضا الحلوى على الموائد هي مقصورة تقريبا على الفاكهة.
الملاحظة الجوهرية التي لفتت نظرنا ان كميات الطعام التي يتم تقديمها تعتبر قليلة جدا، بمقاييسنا نحن بالطبع. وينطبق هذا على كل المطاعم سواء كانت مطاعم شعبية او مطاعم الفنادق التي تقدم الاكلات الفيتنامية. مثلا حين يتم تقديم طبق سمك لاربعة افراد، يوضع في الطبق ٤ قطع صغيرة من السمك.. وهكذا.
من الواضح ان هذا جزء من الثقافة العامة الراسخة في فيتنام.
من الواضح انه بسبب المعاناة الطويلة للفيتناميين والحروب التي خاضوها لعقود متصلة، وبسبب فقر البلاد في الماضي بشكل عام، فرض عليهم هذا الاقتصاد إلى اقصى حد في الطعام وعدم البذخ الذي لم يكن له مجال اصلا. ويبدو ان هذا الاقتصاد اصبح بالتدريج ثقافة غذائية.
وهذا الوضع فرض على الفيتناميين امرا آخر، انهم يأكلون لحوم اي حيوانات تقريبا، بعضهم مثلا يأكلون لحوم الكلاب.. وهكذا.
هذا هو تفسيري الخاص في الحقيقة.
لكن بشكل عام، بغض النظر عن استساغة الاجانب لنكهة الاكلات الفيتنامية من عدمه، الامر المؤكد ان المطبخ الفيتنامي من اكثر المطابخ صحية في العالم. وهذا ما يقوله خبراء التغذية على اية حال، فهو متنوع وتعتبر الاعشاب والخضراوات مكونا اساسيا فيه، كما ان طرق الطبخ تعتبر صحية.
.