المؤرخ المصري د. جمال شقرة في ذكرى ثورة يوليو يؤكد :
ثورة يناير ولدت من رحم ثورة يوليو ١٩٥٢
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٤ يوليو ٢٠١٢
القاهرة- صفية الدمرداش:
أكد د. جمال شقرة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط والمستقبليات بجامعة عين شمس ان الثورة استمدت أفكارها من التراث الإنساني الرافض للظلم والاستغلال والاستعمار، لذا فدعاة الحرية يجدون في أفكارها ومبادئها ملاذاً لهم، وهو ما يؤكد أن الثورة أثرت وتأثرت وسيستمر تأثيرها لفترات زمنية طويلة، وذلك كونها تجربة ثورية إنسانية، متوقعاً أن يأتي يوم يرد فيه الاعتبار لثورة يوليو ولقائدها، واصفاً تجربة الديمقراطية قبل الثورة بالفاشلة والمشوهة التي جاءت في ظل الاحتلال وسيطرة كبار الملاك والباشوات على الحياة السياسية التي أفرزت ثالوث الجهل والفقر والمرض.وإلى تفاصيل الحوار:
- بعد ستين عاما من ثورة يوليو.. هل مازالت حاضرة؟
من المؤكد أن الثورة مازالت حاضرة في الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية التي استفادت منها ولاتزال الثورة حاضرة بمبادئها التي أثرت في الجماهير المصرية والعربية، مازالت حاضرة بتأثيرها في العلاقات الدولية؛ لأنها وضعت مبادئ تحتذي بها في شكل ما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الدول، وخاصة ما يتعلق بكتلة عدم الانحياز وموقفها من الصراعات الدولية، وأعتقد أن الجماهير التي استفادت من الثورة تصف ما حدث بالردة على الثورة، كما مازالت تتمنى عودة عبدالناصر؛ ولو أجري استفتاء حول قبول عودة عبدالناصر فأعتقد أن نتيجته ستكون بنسبة ٩٠% بنعم نقبل عودة عبدالناصر.
- كأستاذ للتاريخ كيف ترى تأثيرها وتداعياتها في المجتمع العربي والافريقي والإقليمي؟
الثورة قامت بظروف موضوعية معروفة؛ حيث كانت هناك أزمات خانقة، وكما قال المفكر طارق البشري إن تلك الأزمات أمسكت برقاب النظام المصري.
فلم تكن أزمة تواجه حكومة، لكنها كانت سلسلة من الأزمات كانت تنذر بسقوط النظام الملكي، وبالتالي استحكام الأزمة الاجتماعية والطبقية في مصر وكذلك استحكام الأزمة السياسية وفشل الملك والأحزاب في معالجة قضية التحرر وتحقيق الجلاء وكذلك فشلهم في معالجة الأزمة الاقتصادية، وعلى المستوى الدولي الثورة كانت في ظل صراع حاد بين الكتلتين الشرقية والغربية، وصراع آخر من جانب إنجلترا وفرنسا من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى والمبادئ التي تحركت بها الثورة لنصرة حركات التحرر الوطني ولمواجهة الامبريالية العالمية، مازالت تصلح في كل زمان ومازالت تداعياتها وتأثيرها في المجتمع المحلي والإقليمي والعالمي ملموسة حتى الآن، فدعاة الحرية والاستقلال من الاستعمار الاقتصادي والعولمة يجدون في مبادئ ثورة ٢٣ يوليو ملاذهم حتى الآن مثل أمريكا اللاتينية، وهنا لابد أن أشير إلى أن مبادئ ثورة يوليو قد استقيت من التراث الإنساني العام ضد الظلم ومن الأفكار الإسلامية التي تدعو إلى العدالة والحرية ومبادئ التيارات السياسية في مصر قبل عام ١٩٥٢، وأيضاً تجدر الإشارة إلى أن الزعيم جمال عبدالناصر وهو مؤسس تنظيم الضباط الأحرار كان أكثر ثقافة وحريصا على تثقيف ذاته والاطلاع على مؤلفات الفكر السياسي والتاريخ والجغرافيا السياسية وغيرها، ولعل سر تلاقي أفكار ثورة ٢٣ يوليو مع حركات التحرر العالمية هو ما اكتسبته الثورة من التراث البشري الإنساني الرافض للظلم.
- هل ترون أن الانتقادات التي توجه للثورة بين الحين والآخر هي نوع من تصفية الحسابات أم في موضعها، وخاصة من قبل جماعة الإخوان أو غيرهم؟
الانتقادات شيء طبيعي؛ لأنها تأتي من الذين انحاز ضدهم عبدالناصر، فمثلا على المستوى الدولي الولايات المتحدة الأمريكية وقف عبدالناصر ضد تغلغلها في الوطن العربي، فعبدالناصر أزعج الولايات المتحدة في المنطقة العربية ومصر، فالوثائق الأمريكية قبل ١٩٦٧ تؤكد أنه يجب التخلص من عبدالناصر أو هزيمته على أيدي أصغر دولة وهي إسرائيل، بمعنى ضرب النموذج المتمثل في الفكر القومي العربي في المنطقة لتسقط معه فكرة القومية العربية، وكذلك يسقط معه دعاة التحرر، وهنا لابد أن أشير إلى أن عبدالناصر كان واعيا أن مصالح مصر والأمة العربية تتناقض مع مصلحة الغرب، كما أشير إلى ضرورة الحذر من أي وثائق أمريكية أو غربية جديدة، لأنه لا يمكن أن تشوه صورة عبدالناصر الحقيقية وقيمة ثورة الثالث والعشرين من يوليو في إطار مخططات ضرب القائد والثورة حيا أو ميتا، لأن هناك توجهات من المخابرات المركزية الأمريكية لاستمرار محاولات التشويه لكن الإشكالية التي تقف أمامهم أن عبدالناصر لم يكن له نقاط ضعف يستطيعون النفاذ من خلالها، فلا توجد سقطات له، لذا فمحاولات التلاعب بالوثائق وتزييفها أمر ممكن.
وعلى المستوى المحلي فأنا أرى أن كل القوى السياسية التي ناصبت العداء للثورة ولقائدها ستستمر وأبرز دليل على ذلك الثأر الذي لا يمحوه إلا الدم بين جماعة الإخوان وعبدالناصر.
- لكن البعض برر انتقاده للثورة بأنها لم تحقق الديمقراطية.
الديمقراطية التي يحكون عنها قبل عام ١٩٥٢ لا يمكن اعتبارها تجربة ديمقراطية حقيقية بالمعنى الذي يذهبون به إليها، فما يسمى التجربة الليبرالية قبل الثورة مشوهة جدا، زرعت في أرض مصر وهي ليست مناسبة من ناحية البنية الاجتماعية لاستقبال الديمقراطية الغربية/ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أي ديمقراطية يتحدثون عنها وهي ولدت ونشأت في ظل المستعمر البريطاني وفي ظل سيطرة المستبد في السرايا؟ وهنا لابد أن أذكر بشهادات عن تلك التجربة منها الكاتب عبدالحميد جودة السحار، حين قال: إن الفلاحين يساقون كالبهائم للإدلاء بأصواتهم لصالح كبار الملاك، أي ديمقراطية تلك التي أفرزت الجوع والحفي وثالوث الجهل والفقر والمرض؟ وفي الحقيقة فأنا أرى أن الديمقراطية الغربية ما هي إلا أداة في يد طبقة محدودة من رجال الأعمال والهامش الوحيد هو إلى أي حد تسمح بهذا الهامش؟ وأستطيع القول إن عبدالناصر انحاز إلى تطبيق الديمقراطية الاجتماعية، وانحاز بها إلى الغالبية العظمى من الشعب المصري ومحسوب إلى عبدالناصر الحراك الاجتماعي الهائل الذي نفذه في المجتمع المصري.
- هل يمكن توصيف ثورة يوليو بأنها ثورة عالمية وهل يمكن القول انها أثرت وتأثرت عالميا؟
الثورة استمدت أفكارها من التراث الثوري العالمي، وبالتالي فهي ليست بمعزل عما جرى في فرنسا وإنجلترا وغيرهما من الثورات، ثم ان ثورة يوليو هي إحدى حلقات الثورة الوطنية المصرية، مؤكدة أنها تأثرت بإخفاقات ثورة ١٩١٩، كما استفادت مما طرحته الثورة العرابية،وكذلك لقد استفادت مما طرحه محمد فريد ومصطفى كامل وسعد زغلول ولعلي أتذكر هنا أن عبدالناصر قد قرأ محتويات مكتبة الكلية الحربية قبل الثورة وما بها من تاريخ الثورات والاستراتيجية العسكرية والجغرافيا السياسية وغيرها من فنون العلم والمعرفة، وأستطيع القول إن ثورة يوليو تم الاقتداء بها وتتابعت الثورات في المنطقة العربية من بعدها إلى أن طرد المستعمر البريطاني، كما انتقل تأييد الثورة إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وللعلم تراث ثورة يوليو يدرس في كثير من الجامعات المختلفة، والاتحاد السوفيتي من الدول التي درست جيدا الثورة التي قام بها ضباط وطنيون، وبالتالي فالثورة بالفعل أثرت وتأثرت وستستمر في تأثيرها لفترات زمنية طويلة؛ لأنها تجربة ثورية إنسانية على المستوى الإنساني ضد الظلم والفقر والاستغلال والاستعمار، فهي تلهم كل الثائرين في كل شبر من الكرة الأرضية.
- هل هناك علاقة بين ثورة ٢٣ يوليو و٢٥ يناير؟
رغم ان لكل ثورة ظروفها، فان الثورة الثانية وهي ثورة ٢٥ يناير ولدت من رحم الثورة الأوليي وهي ثورة ٢٣ يوليو، والذين يهاجمون ثورة يوليو ليقللوا من شأنها يقعون في خطأ علمي فاضح لانهم يحاولون رفع شأن ثورة ٢٥ يناير بأقاويل غير علمية، فكل ثورة من الثورات المصرية عبر التاريخ تمثل حلقة من حلقات النضال المصري ضد الحاكم المستبد الفاشل والحاشية الفاسدة والمستعمر وسياسته.
- وما أوجه التشابه بين الثورتين؟
تتعدد أوجه التشابه بين الثورتين، ويوجد أيضا بعض الاختلافات نتيجة ظروف كل ثورة، وعن اوجه التشابه ان ثورة يوليو انفجرت نتيجة الفساد من الطبقة التي كانت مستغلة للشعب، كذلك بسبب فساد الملك وحاشيته، وفشل التحرر من الاستعمار الانجليزي، ونظام فاروق الذي يحاول أن يجمله البعض حاول ان يعالج القضية الوطنية بالمفاوضات ففشل، وحاول ان يعالجها بالتحكيم الدولي ففشل، واضطر إلى ترك القضية الوطنية وطرد المستعمر الانجليزي واهتم بمعالجة الامور الاقتصادية ففشل ايضا، ودخل حرب فلسطين عام ١٩٤٨ فانهزم، كما انفجرت حركة الكفاح المسلح في القناة ولم يفلح نظام فاروق في دعمها، كما استشهد ضباط وجنود الشرطة في كفر عبده ٢٥ يناير ١٩٥٢ فلم يحرك النظام ساكنا، كما احرقت القاهرة، وكان احراق القاهرة والتطورات السابقة تؤذن بتفسخ عرى النظام، فالأطر الخاصة بالنظام لم تعد تحتمله، وبالتالي الأزمة التي واجهت نظام الدولة المصرية في أواخر عهد فاروق لم تكن أزمة حكومات وإنما كانت ازمة نظام اهتز وتحلل وأصبح الكل يشعر بصوت زلزال الثورة يقترب، ولكن لا احد يعلم من سيقوم بالثورة، فكل القوى السياسية والأحزاب آنذاك عاجزة عن القيام بالثورة بما فيها الاخوان المسلمون والمليشيات التي كونها الاخوان المسلمون.
- وماذا عن أوجه التشابه الأخرى؟
نجحت ثورة ٢٣يوليو ١٩٥٢ في طرد الملك وحل الأحزاب الموجودة، وابعاد كبار الملاك الذين أفسدوا الحياة السياسية لذلك عقب صدور قانون تحديد الملكية الزراعية لمائتي فدان للفرد ومائة فدان للأسرة اي بعد شهرين من قيام الثورة وكل ذلك في وقت قياسي، وهذه الانجازات اعطت الضباط الاحرار معنى الثورة، وبذلك حصل تنظيم الضباط الذي وثق فيهم، والذي يكشف من الجانب الآخر عبقرية المصريين في دعم الضباط ؛ لأنه لم ينظر اليهم على أنهم جنرالات ولكن نظر اليهم على انهم طوق النجاة.
- ما هو دور الجيش في ثورتي ٢٥يناير و٢٣يوليو؟
لقد لعب الجيش دورا محوريا خلال ثورة ٢٥ يناير فقد خاف عليها وحماها وفي ٢٣ يوليو ١٩٥٢ كان تنظيم الضباط الأحرار مفجر الثورة والتف حوله الشعب ومنحه الشرعية، وفي حالة ثورة ٢٥ يناير الشعب انفجر من الظلم وتحرك الجيش ليحمي الدولة بعد ان شعر بأن الدولة والثورة في خطر.
- هل ترى مبررا لما قامت به الثورة من دور في مساعدات حركات التحرير في العالم وكذلك تأثرها بشكل واضح بالقضية الفلسطينية؟
هذه القضية من القضايا المزعجة جدا التي أثارتها ثورة يوليو وأعتقد أنهم يجدون أنفسهم يسخرون من أنفسهم عندما يثيرون هذه القضية، أولا من يثيرون هذه القضية مردود عليهم فعندما نتحدث عن الدور المصري ومصر التاريخ والدور في الإقليم لا يستطيع أحد أن ينكر عبر الزمن أهمية دورها في المنطقة، فمصر خدمت نفسها بمساعدة حركات التحرر لاستكمال استقلالها والحفاظ على الأمن القومي المصري الذي يمتد إلى افريقيا، وآسيا والخليج العربي، وهنا أستطيع القول إن مبادئ ثورة يوليو كانت مبادئ عامة رأت كثير من الدول أنه لا يمكن الأخذ بها، وهذا ليس عيبا في مصر بل العكس صحيح، ولولا تأييد مصر لثورة اليمن وأيا كانت التضحيات التي قدمتها مصر فانتصرت مصر في أكتوبر عام ١٩٧٣ لأن ثورة اليمن هي التي مكنت مصر من السيطرة على خليج عدن والسيطرة على البحر الأحمر من الجنوب.
- هل يمكن اعتبار كتب المذكرات مصدرا وثائقيا يعتد به من ناحية التأريخ وما خطورة تلك الكتابات؟
الذي له صلاحية التأريخ هو المؤرخ المحترف؛ ويؤسفني أن أقول إن مهمة التأريخ باتت مهنة من لا مهنة له، وكل من هب ودب بدأ يكتب في التاريخ ويتصورون أن التاريخ قصة أو حدوتة أو رواية وهذا خطأ، فالتأريخ علم ويحكمه منهج بحث علمي تاريخي صارم، والذي له صلاحية كتابة التاريخ لثورة أو غيرها من الحقب التاريخية هو من أعد داخل الجامعات أو مراكز الأبحاث إعدادا علميا متكاملا يساعده على كتابة التاريخ وفق المنهج العلمي الصارم المتبع من حيث جمع المادة العلمية من المصادر الموثوق منها ويقوم بعملية غربلة لهذه المادة وينتقدها وفق رؤية علمية ويبدأ بعملية الترتيب التاريخي وهي عملية صعبة جدا لأن تعمل في عقل كاتب النص للوصول إلى وقائع يمكن معها افتراض الحقيقة التاريخية، والذين يكتبون بغير تمكنهم من منهج البعث العلمي التاريخي يمكن إخضاعها بشوائبها إلى المنهج العلمي، وربما نستفيد منها من خلال المقارنة للوصول إلى الحقيقة، لكن في حقيقة الأمر خطورة مثل هذه الكتابات والمذكرات أنها يمكن أن تزيف عقل الأمة، وهنا أقول إذا ما قدم الكاتب رواياته أو مذكراته على أنها نوع من الإبداع فأهلا وسهلا بها باعتباره يقدم إبداعا لكن لا يمكن تصديرها لشباب الأمة على أنها حقائق تاريخية، لأنها تؤثر في العقل الجمعي وتبني نوعا من البلبلة بشأن البحث عن الحقيقة، وهنا أؤكد أن هؤلاء الذين يكتبون تلك المذكرات أو الكتابات يكتبونها لأغراض سياسية ويسخرون أقلامهم لصالح توجه سياسي معين، فإذا ما كتب وفدي عن ثورة يوليو لا يمكن احتسابها كتابة تاريخية لكن يمكن احتسابها على أنها رأي شخصي، وإذا كتب حاقدون من الإقطاعيين أو من أضير من الثورة يعد وجهة نظر يجب أن تخضع للبحث العلمي، والمذكرات والذكريات والشهادات ومحاضر التفتيش التي يجريها الباحث مع شهود الأعيان كلها تعد مصدرا في كتابة التاريخ بعد اخضاعها للتحليل والبحث العلمي، وفي كثير من الأحيان أن كاتب المذكرات أو شاهد العيان قد يكتب ليبرر لنفسه أو ليضخم ذاته أو دوره وخاصة أن يكتب بعد مدة كبيرة من انقضاء الحدث أو بعد وفاة كثير من شهود العيان؛ لأنه قد يحرف أو يضيف وقائع، وفي رأيي أنا قد استفدت من هذه الظاهرة لأنها قدمت لي شهادة عملت عليها؛ وهنا أقول لولا ما كتبه أنور السادات فيما كتبه ولولا التناقضات التي وقع فيها بين «يا ولدي هذا عمك جمال» و«قصة الثورة كاملة» و«البحث عن الذات» ما توصلنا إلى من هو المؤسس الحقيقي لتنظيم الضباط الأحرار.
.