الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٤٦ - الأحد ٢٩ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٠ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الاسلامي

الشافعي الزاهد.. ورمضان







يأتي شهر رمضان المبارك ليغذي في المسلم قيم الإسلام العليا، تلك القيم التي تجعل من مجتمع المسلمين- حال التمسك بها- مجتمعا فاضلا تسوده المحبة والإخاء، وقادرا على النهوض والتقدم، وقادرا أيضا على مواجهة الصعاب والأزمات.

ومن ضمن هذه القيم التي يجب أن تسود وتنطلق فينا ويرسخها شهر رمضان المبارك، قيمة الزهد وعلاقتها بالصيام.. يقول الله تبارك وتعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبلا الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:٣١)، وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما) (الفرقان: ٦٧)، ومن قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة) (أخرجه الإمام النسائي).

وهكذا فالاعتدال والاقتصاد في المأكل والمشرب والمسكن.. إلخ، شيء ضروري للحفاظ على صحة الجسم وصفاء الروح والقلب، وهما أساس النجاح والسعادة في الحياة. كما أن السرف والترف سبيل للشهوات واتباع الشيطان، وهما من أسباب الفشل في هذه الحياة. فالمسرفون ضعفاء العقول والأجسام والإرادة وخاملو الأذهان، لا يعرفون للحياة معنى ولا قيمة، سوى ما تسوقهم إليه الشهوات والملذات العابرة، فلا يسعون إلى ما يفيد المجتمع ولا يفكرون فيما يعمر البل ويأتي الصيام الذي يغذي قيمة الزهد ليربي الإرادة والضمير الحي، ويبني الأجسام والعقول ويهذب النفوس والوجدان.. وليسمح لي القارئ الكريم بأن أقتطف له بعضا من هذه المعاني من حياة الإمام الشافعي رضي الله عنه التي وردت في الكتاب المهم تربية البنين لأستاذنا الكبير علي فكري: "لما كان الشافعي صبيّا أرسله والده (إدريس) إلى الكُتَّاب، فكان دائما على مقربة من المعلم وقت إلقاء الدرس، وكان يحفظ جيدا كل ما يسمعه، حتى إذا ما ذهب المعلم لقضاء حاجته، أخذ الشافعي التلاميذ وحفَّظهم ما حفظه.. فأحبه زملاؤه، والتفوا حوله ورفعوه فوقهم، وأطاعوا أمره؛ لذلك كان الأول في مكتبه. ولما رأى المعلم اجتهاده ونجابته اعتبره بدون مصروفات مجانا" وكان الشافعي ميّالا جدّا للألعاب الرياضية، فكان يأخذ الصبيان إلى ساحة "مكة المكرمة" وضواحيها، ويلعب معهم هناك مختلف الألعاب التي كانت مشهورة في ذلك الزمان. ولما بلغ من العمر تسع سنوات كان قد أتم حفظ القرآن كله، فترك الكُتّاب، ودخل المسجد الحرام وأخذ يجالس العلماء، ويحفظ الحديث وعلوم القرآن وغيرها. وكان من شدة فقره يجمع العظام ليكتب عليها مذكراته، وكان - من فقره وزهده- يذهب إلى دواوين الحكومة ومصالحها ويلتقط قصاصات القراطيس من تحت أقدام الكتبة؛ ليكتب على ظهرها، وفي المسافات الخالية فيها، المذكرات التي درسها.. وكان يقول:

العلم صيد والكتابة قيده

قيِّد صيودك بالحبال الواثقة

***

فمن الحماقة أن تصيد غزالة

وتفكها بين الخلائق طالقةمن المبادئ التربوية للإمام الشافعي في الزهد:

وكان - رضي الله عنه- يرى أن من أهم أسباب الفلاح في العلم الفقر والتقشف؛ ولذلك كان يقول: ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة.. ولما كثرت العظام والقصاصات عنده وضاق بها صندوقه وحجرته، صمم على أن يحفظ ما جمعه فيها عن ظهر قلب، ويستغني عنها، وفعلا حبس نفسه بالحجرة، وأخذ يحفظ ما كتبه على العظام والقصاصات بعزيمة صادقة، حتى أتم حفظها واستغنى عنها وخرج من الحجرة وهو يقول:

علمي معي حيثما يمَمتُ ينفعني

صدري وعاء له، لا بطن صندوقي

***

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي

أو كنت في السوق كان العلم في السوق

هذا هو الإمام الشافعي الذي صار إمامًا في الاجتهاد والفقه، وإمامًا في الإيمان والتقوى والورع والعبادة؛ فكان الشافعي قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام.

وقيل انه كان لا يقرأ قرآنًا بالليل إلا في صلاة؛ يقول المزني: ما رأيت الشافعي قرأ قرآنًا قط بالليل إلا وهو في الصلاة. ووُصِفَ الشافعي - رحمه الله- أيضًا بالحكمة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة.













.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة