أمريكا وجريمتها التاريخية في العراق
 تاريخ النشر : الجمعة ٦ يناير ٢٠١٢
بقلم: د. أحمد يوسف أحمد*
بعد نحو تسع سنوات على مغامرة الغزو الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣ أعلنت الولايات المتحدة رسميّا نهاية الحرب في العراق، ووضعت حدّا«للتركة الثقيلة» على حد قول الرئيس الأمريكي، واحتفل وزير الدفاع الأمريكي وعدد من كبار القادة العسكريين الأمريكيين في بغداد في الخامس عشر من شهر ديسمبر الماضي بهذه المناسبة. وكاد الاحتفال يكون أمريكيّا صرفا في إشارة إلى رفض الشعب العراقي التكييف الأمريكي للغزو وبخاصة بشأن «تضحيات» قدمها الأمريكيون في سنوات هذا الغزو.
لقد استند الغزو الأمريكي للعراق إلى عدد من المبررات التي ثبت زيف معظمها بمجرد إتمامه، وكانت على رأس تلك المبررات أكذوبة ترسانة أسلحة الدمار الشامل التي زُعِمَ أن العراق كان يمتلكها، وكانت الأكذوبة مفضوحة منذ البداية، لأن العراق خضع لعمليات تفتيش ورقابة تفصيلية من قبل مراقبين دوليين تابعين للأمم المتحدة، ولكن التطورات اللاحقة أثبتت أن غزو العراق كان في مقدمة جدول أعمال الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، وأنه استغل أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ كي يضع هذا الغزو موضع التطبيق. كان الهدف وفقاً لكثير من المحللين الأمريكيين والأوروبيين - والعرب بطبيعة الحال- هو نفط العراق، بالإضافة إلى إعادة تشكيل خريطة المنطقة استناداً إلى الوضع الاستراتيجي الجديد الذي أوجده الغزو، والذي لفت وزير الخارجية الأمريكي أثناء الغزو كولن باول الدول العربية إليه في لهجة تحذيرية واضحة.
وقع الغزو في زمن الانفراد شبه المطلق من قبل الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي رسميّا في نهاية ١٩٩١، وقد انعكس هذا التفوق الاستراتيجي الأمريكي على موقف الدول العربية التي أجمعت قبيل الغزو - كما بدا من قرارات قمة الأول من مارس ٢٠٠٣- على رفض التهديد الأمريكي للعراق، والتدخل في شؤونه الداخلية، لكنها لم تحرك ساكناً عندما وقع الغزو، بل لقد تعاملت في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجامعة العربية مع حكومة العراق - التي شكلها الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر - باعتبارها الممثل الشرعي للعراق في الجامعة، وذلك أثناء مجلس وزراء الخارجية العرب الذي انعقد بالقاهرة في سبتمبر .٢٠٠٣
وقد اتخذت الإدارة الأمريكية في بداية الغزو مجموعة من القرارات التي كشفت جهلها العميق بمقتضيات إدارة بلد تحت الاحتلال، ودفعت الثمن غالياً لهذه القرارات. فككت مؤسسات الدولة العراقية من جيش ومؤسسات أمنية باعتبارها تنتمي جميعاً إلى النظام القديم، ولم يكن هذا صحيحاً من ناحية، أو حكيماً من ناحية أخرى، ذلك أن تبعية هذه المؤسسات لنظام ما تقتصر عادة على المستويات القيادية - حتى إن توسعنا في نطاق تحديد هذه المستويات- وكانت النتيجة أن المقاومة الشعبية للاحتلال قد عُززَت بأفراد هذه المؤسسات المسرَّحين الذين لا يُنكَر عليهم انتماؤهم الوطني، وإن ساعد على انخراطهم في المقاومة أنهم أصبحوا بلا عمل. ونتيجة لهذا أخذت أرقام القتلى والجرحى الأمريكيين في الحرب ضد المقاومة في التزايد على نحو مقلق سياسيّا، إذ بلغت في المدة من ٢٠٠٣ إلى ٢٠٠٧ - حين تمكنت السياسة الأمريكية من كسر حدة المقاومة وزرع الانقسام بين صفوفها - زهاء خمسة آلاف قتيل وما يزيد على ثلاثين ألف جريح، ومعروف أن هناك من يشكك بعمق في دقة هذه الأرقام، باعتبار أن أعداد القتلى كانت تحصى من واقع حاملي الجنسية الأمريكية فقط من بين صفوف القوات النظامية الأمريكية، وعليه فإن كل قتيل لم يكن يتمتع بهذه الجنسية، أو كان ضمن «شركات الأمن الخاصة» التي كانت تقوم بحراسة المعتقلات والمنشآت والقيادات السياسية المهمة، لم يكن محسوباً ضمن هذه الآلاف الخمسة.
من ناحية أخرى اتخذ الحاكم المدني الأمريكي للعراق - برضا الإدارة الأمريكية بطبيعة الحال - مجموعة من القرارات السياسية كانت تعكس إما جهله الشديد بتركيبة الشعب العراقي، ونموذج التفاعلات بين مكوناته، وإما أنها كانت تعبر عن سوء نية تجاه العراق على أساس من سياسة «فرِّق تسد»، وأيّا كان مبرر هذه السياسة الحمقاء فقد أوغرت بالأساس صدور السلانة على الشيعة، وأدخلت المجتمع العراقي في دوامة تشبه الحرب الأهلية، مع أنه لم يعرف في السابق مثل هذا الاحتقان بين سنته وشيعته. وهكذا تعرض العراق غير مرة لخطر التمزيق، وخاصة أن وضع المسألة الكردية قد استقر على ما يشبه «دولة داخل الدولة»، إذ بدت العلاقة التي تربط إقليم كردستان بحكومة العراق المركزية أقرب إلى العلاقة الكونفيدرالية (التعاهدية) - حيث لا سلطة تنشأ فوق سلطة الأعضاء- منها إلى العلاقة الفيدرالية (الاتحادية)، حيث توجد سلطة مركزية قوية في أمور الدفاع والسياستين الخارجية والنقديوقد ترتب على ما سبق أن «التجربة العراقية» قد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك فكرة «حدود القوة» بالنسبة إلى الدولة العظمى الوحيدة في النظام العالمي، فقد أدى نزيف الدم الأمريكي نتيجة تصاعد المقاومة، ناهيك عن كلفة الغزو التي قدرت بمئات المليارات من الدولارات، إلى حدوث تغير ملموس في اتجاهات الرأي العام الأمريكي، إذ أصبح في غالبيته مناهضاً للحرب، وانعكس هذا في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، حيث أدت تلك الانتخابات إلى أغلبية «ديمقراطية» داخله، ثم لعب دورا مهمّا في انتخابات الرئاسة الأمريكية حيث صوتت غالبية الشعب الأمريكي للمرشح «الديمقراطي» أوباما الذي كان يتحدث عن رؤية سياسية تفضي إلى إنهاء الالتزام الأمريكي في العراق، فيما كان منافسه الجمهوري جون ماكين يتحدث عن استعداده للبقاء في العراق خمسين سنة أخرى إذا تطلب الأمر.
غير أن أعجب نتائج الغزو الأمريكي للعراق يتمثل فيما أدى إليه من اختراق إيراني متزايد له! ذلك أن إضعاف العراق وتفكيكه قد ساعدا على تزايد الحضور الإيراني فيه، وتدخل إيران الصريح في شؤونه السياسية، وهكذا أفضت السياسة الأمريكية من خلال سلسلة الأخطاء التي وقعت فيها إلى تقوية إيران خصمها الإقليمي اللدود، أي أن كل ما فعلته هذه السياسة هو أنها استبدلت بالنظام الديكتاتوري في العراق الذي كان يمثل حائط صد ضد النفوذ الإيراني نظاما ديمقراطيّا هشا فتحت فيه الأبواب على مصاريعها لذلك النفوذ.
يواجه العراق مستقبلا محفوفا بالمخاطر بعد انتهاء سنوات الغزو التي سقط فيها مئات الألوف من شعبه ضحية لهذا الغزو، وأول تحديات هذا المستقبل هو الاختبار الذي ستتعرض له المؤسسة الأمنية العراقية في القريب العاجل، وثانيها هو إعادة بناء اللحمة الوطنية التي عرفها العراق منذ نشأته بحدوده الحالية - في أعقاب الحرب العالمية الأولى- وثالثها هو إعادة البناء الاقتصادي التي تتطلب قرارات سريعة وحاسمة في هذا الصدد قد تخفف من صعوبتها موارد العراق الوفيرة، وأخيراً وليس آخراً تحدي العلاقة مع الولايات المتحدة التي سحبت قواتها القتالية، ولكن ثمة «اتفاقية استراتيجية» مازالت تربطها بالعراق، فضلا عن أنها لم تخف نية استمرار الحضور في الشأن العراقي: «انتهت الحرب، لكننا لا نتخلى عن مسؤولياتنا» وفقاً لوزير الدفاع الأمريكي.
أعان الله العراق وشعبه على النجاح في عملية إعادة بناء مستقبلهما بما يجعلهما ركيزة أساسية للقوة العربية، ونموذجاً يُحتذى لديمقراطية تجمع أطيافهما، وتفضي إلى تفاعل سلمي مع جيرانهما في إطار من الاحترام المتبادل.
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
.